- إجالة الفكر
- علامه شیخ بهاءالدین فاضل اصفهانى (1137 هـ . ق)
- تحقیق: رحیم قاسمى
علامه شیخ بهاءالدین محمّد بن تاجالدین حسن اصفهانى از فقهاى نامدار جهان تشیع است كه با تألیف اثر گرانقدر فقهى «كشف اللثام فى شرح قواعد الأحكام» نام خود را جاودانه، و جهان علم را رهین منّت خود ساخته، این چهره درخشان از كسانى است كه در خردسالى از تحصیل بسیارى از دانشهاى زمان خود فارغ شده و از همان سنین به تألیف و تدریس پرداخته است.
وجه ملقّب شدن او به فاضل هندى آن است كه در سنین خردسالى به همراه پدر دانشمند خود سفرى به هندوستان نموده و چند سالى در آنجا ساكن گردیده است.
علامه زنوزى در «ریاضالجنّة» برخى از قضایاى شگفتانگیز این سفر، و مناظره این نابغه خردسال با دانشمندان غیر شیعى آن دیار را نقل كرده است. ]ر. ک: ریاض الجنة 2: 208 ـ 203[.
فاضل اصفهانى به جز «كشف اللثام» آثار ارزشمند دیگرى نیز تألیف كرده كه مهمترین آنها عبارتند از:
1ـ المناهج السویة، كه شرحى است مبسوط بر شرح لمعه شهید ثانى و هنوز به چاپ نرسیده است.
2ـ عون إخوان الصفا، كه تلخیصى عالمانه و مفید از كتاب شفاى ابنسیناست و توسط آقایان على اوجبى و دكتر حامد ناجى اصفهانى تصحیح شده و در حال چاپ است.
3ـ اللالى العبقریه، كه شرحى بسیار عالمانه و ارزشمند بر قصیده سید حمیرى است و اخیراً به چاپ رسیده است.
این عالم فرزانه آثار مختصر فراوانى نیز از خود برجاى نهاده كه برخى از آنها همچون: بینش غرض آفرینش، حكمت خاقانیه، الكوكب الدرّى و.. به چاپ رسیده است.
رساله «إجالة الفكر فى فضاء مسألة القضاء و القدر» از آثار منتشر نشده فاضل اصفهانى است كه اخیراً نسخه آن به همراه چند رساله دیگر از جمله «تحدیق النظر» از تألیفات او در «فهرست نسخههاى خطّى كتابخانههاى قائن» معرّفى شده، و عكسى از آن به لطف جناب آقاى اشكورى در اختیار قرار گرفت.
در این رساله به بحث از مسأله جبر و اختیار پرداخته شده و به تفصیل، دلایل عقیده شیعه و اشاعره مورد بررسى قرار گرفته است.
فاضل محقّق اصفهانى كه داراى كتابخانهاى بسیار مهم و غنى بوده در این رساله مختصر، اقوال زیادى را نقل و نقد نموده است. در تصحیح این رساله، با وجود تلاش و جستجو در منابعى چون: شرح المواقف، شرح المقاصد، المطالب العالیة و… كه گمان مىرفت مورد استناد فاضل بودهاند، به مآخذ وى كه بدون ذكر نام از آنها نقل قول شده دسترسى حاصل نشد. از دو كتاب «التلویح» و «التوضیح» نیز كه مطالبى به تفصیل از آنها نقل شده در كشفالظنون و ذیل آن نشانى نیست، ولى از همین رساله معلوم مىشود كه كتاب «التلویح» از آثار تفتازانى شارح «مقاصد» است. نكته پایانى این كه این رساله در سال «1078» تألیف شده و با توجّه به سال ولادت مؤلّف «1062» معلوم مىشود كه وى آن را در سن 16 سالگى نگاشته است. همچنین از عبارات آخر رساله: «مؤلِّفه المؤلَّف بینه و بین أعدائه، المبعَّد عن إخوانه و أصدقائه» برمىآید كه این رساله در ایام اقامت چند ساله فاضل در هندوستان تألیف شده.
گفتنى است كه مرحوم فاضل پس از نقل برخى از اقوال و استدلالات سست و غیرمنطقى علماى عامّه، آنان را سخت به باد انتقاد گرفته و قبل از بیان جواب علمى، برخى كلمات و الفاظ خاص درباره آنان به كار برده كه چند مورد از آن، مواردى است كه با علامت نقطهچین مشخص شده است.
والحمد للّه ربّ العالمین
بسم اللّه الرحمن الرحیم
أللّهَ أحمد على أن جعلنی من الطائفة الهبرزیة المحقّة الإمامیة الإثنا عشریة، و أظفرنی على الطائفة العنكبوتیة المجبّرة القدریة القذریة. أللّهمّ فكما لعنت القدریة على ألسنة أنبیاءک الكرام، أفض على أحزابک القدریة من سحائب الإفضال و الإكرام. واُصلّی على سید اُولی القوى و القدر، المبعوث بالقضاء المحتوم إلى كافّة الجنّ و البشر، و على آله و عترته الطیبین الطاهرین، سیما خلفائه ما دارت السبع السداد على الأرضین.
و بعد، فإنّ باب القضاء و القدر طریقٌ طامس، و لیلٌ ألیل دامس، و بحرٌ لجّی لا یدرک قعره، و ظلام لا یتبدّى ثغره، فكم من سالکٍ قد زلّت قدمه، و كم من ساربٍ قد اریقت نفسه و دمه، و كم من غائصٍ لم یعثر على شی حتّى انقضى أجله، و كم من والجٍ یأمل نوراً فخیب أمله، و إنّ رسالة «استقصاء النظر فی بحث القضاء و القدر» من مصنّفات البحر القمقام، و الصارم الصمصام، علّامة العلماء الأعلام، إمام أئمّة فضلاء الأنام، المطهّر عن أدناس النفوس و الأجرام، المبعّد عن أرجاس الأباطیل و الآثام، ناصر اُولی الأفهام، مُخذل أرباب الأوهام، شیخنا الملقّب بالعلّامة، و رئیسنا المنقّب بالإمامة، جمال الملّة و الحقّ و الدنیا و الدین، حسن بن یوسف بن المطهّر الحلّی ـ اُفیض علیه من هوامر فواضل ربّه العلی ـ كتاب فی إحقاق الحقّ و إبطال الباطل كافی، و لإفهام الضُلّال عن نهج الصدق شافی، فأردت أن اُوضحه ببیانٍ یشفی من اللهب، و اُوجزه بكلامٍ یكفی عن النصب، و اُشیده بركنٍ لا تتضعضع به الوساوس الإبلیسیة، و اُقوّمه بقوائم راسخة لا تتزلزل عند تدافع الكلمات التلبیسیة، و اُلحق به مازاد من الدلائل و الشكوک، و ما لم یتعرّض له من الإشكالات و الفكوک، و أن اُسمّیه بـ«إجالة الفِكَر فی فضاء القضاء و القدر» و اللّهُ الموفّق للإتمام، إنّه هو المفضّل المنعام.
مقدمة
اعلم أنّه لا خلاف بین العقلاء فی أنّ محلّ الأفعال الّتی تصدر عن العبد بلا إكراه هو العبد، لكن اختلفوا فی القدرة الّتی بها تقع تلک الأفعال، فقالت الإمامیة و المعتزلة: إنّ الأفعال الإختیاریة للعبد إنّما تقع بقدرته لا بقدر اللّه تعالى. و هذا هو الّذی ذهبت إلیه الحكماء.
و قال جمهور الأشاعرة و الجهمیة: إنّها واقعة بقدرة اللّه تعالى لا بقدرة العبد، لكنّ الأشاعرة قد امتازوا عن الجهمیة بأن قالوا: إنّ القدرة على قسمین: مؤثّرة و كاسبة، فللّه القدرة المؤثّرة، و للعبد الكاسبة، فقد ثبت للعبد أیضاً قدرة و إن لم تكن مؤثّرة.
و أمّا الجهمیة فإنّهم یقولون: لا قدرة للعبد من وجهٍ، فیكون جبراً محضاً.
و قال القاضی الباقلّانی و أبوإسحق الإسفرایینی: إنّ فعل العبد واقع بقدرتین: قدرة اللّه، و قدرة العبد. ثمّ افترقا، فقال القاضی: إنّ قدرة اللّه تعالى یتعلّق بأصل الفعل، و قدرة العبد بوصفه، من كونه طاعة أو معصیة. و قال أبوإسحق: إنّ القدرتین جمیعاً یتعلّقان بأصل الفعل. ]راجع: شرح المواقف 8: 147 ـ 145[.
فصل: و للمذهب الحقّ وجوه من الحجّة
و لیعـلم أنّ كـلّ مـا نذكـره من الدلائـل إنّمـا هـی تنبیهـات علـى الأمر الضـروری الّـذی یعرفه كلّ أحد، إلّا مَن عاند و كابر، فإنّا نحن معاشـر العدلیـة ندّعی أنّ وقوع الأفعال الإختیاریة للعبد بقدرته أمر ضروری لا شکّ فیه، حتّى أنّه لوسئل الصبیان لحكموا بأنّ أفعالهم صادرة عنهم، حكماً لا یقفون فیه؛ و لا نفرّق بین حكمهم هذا و حكمهم بأنّ الكلّ أعظم من الجزء، و لذا قال أبوالهذیل العلّاف: إنّ حمار بشرٍ أعقل من بشرٍ، لأنّ حمار بشرٍ یعلم لو أتیت به إلى جدولٍ صغیر و ضربته للعبور فإنّه یطفر، و لو أتیت به إلى جدولٍ كبیر و ضربته فإنّه لا یطفر و یروح عنه، لأنّه فَرَق بین ما یقدر على طفره و بین ما لا یقدر علیه، و بشر لا یفرق بین المقدور و غیر المقدور.
هذا ما نقل عن العلّاف، فإنّه لغایة دعوى بداهة هذا الحكم نَسَب العلم بهذا الحكم إلى الحمار الّذی هو أبلد حیوانات العجم بحیث یضرب المثل ببلادته.
و ممّا یؤید ما ذكرنا من الضرورة أنّه إذا ذكر ما ذهبوا إلیه هؤلاء الجهلة عند عوامّهم المتعصّبین فی مذهبهم استنكروه، و نزّهوا مشایخهم عن القول بذلک، و اغتاظوا على مَن نقل عنهم مثل هذه الشنیعة.
فلنرجع إلى ذكر الدلائل التنبیهیة على ما هو الحقّ:
فالأوّل منها: إنّا نعلم ضرورةً أن لا فرق بین حركتنا ارتعاشاً و حركة أغصان الشجر بالریح، و إنّه فرق بین بین حركتنا اختیاراً و حركة الأغصان بالریح، و ما ذلک إلّا لأنّ الحركة الاُولى لا تصدر عنّا بل إنّما نحن محلّها، و فاعلها غیرنا، كالریح المحرّک للأغصان، و الحركة الثانیة إنّما تصدر عنّا و نحن فاعلوها، و حركة الأغصان بخلاف ذلک و أمّا ما ادّعوه من الكسب: فإن أرادوا به المحلّیة فهو فی الأغصان موجود بلا استرابة.
و إن أرادوا به العزم فیلزم أن یكون العازم على الصعود على السطح بلا مدرجٍ إذا أصعده آخر فاعلاً لهذا الصعود باختیاره، و لا یخفى فساده.
و إن أرادوا به معنىً آخر فلیبینوه، مع أنّه لیس شیء من المعانی معنى القدرة، فإنّ القدرة لا معنى لها إلّا صحّة الفعل و الترک، أو كون القادر بحیث إن شاء فعل و إن لم یشأ لم یفعل، و أمّا إطلاقها على معنىً آخر فلیس إلّا مجرّد اصطلاح.
قیل: مَثَل العبد فی صدور الفعل مَثَل القوى الّتی ركّبت فی البدن، فإنّه تنسب إلیها الأفعال مع أنّها لیست بصادرةٍ عنها عند المعتزلة و غیرهم، فلا معنى لنسبة الفعل إلیها إلّا كونها أسباباً له، فكذا نقول فی قدرة العبد: إنّها سبب لصدور الفعل عن اللّه تعالى، و لا محذور.
أقول: الآن حصحص الحقّ من خاصرة الباطل، و سطعت غرّة الصدق من جبین الكذب المتناقل، فإنّه لا یشکّ عاقل فی أنّه لا یقال لهذه القوى: إنّ هذه الأفعال اختیاریة لها، فإذا كانت نسبة قدرة العبد إلى أفعاله كنسبتها إلى أفعالها لزم أن لا یكون أفعاله أیضاً اختیاریة للعبد، و هل هذا إلّا ما ألزمناه علیهم؟
ثمّ انظر إلى ما فی كلامه من الاضطراب و التشویش، فإنّه شبّه قدرة العبد بالقوى فی السببیة، فینبغی أن تكون قدرة العبد مثلها فی نسبة الفعل أیضاً، أی یقال: إنّ قدرة العبد هی الفاعلة، كما یقال: إنّ هذه القوى هی الفاعلة، باعتبار أنّ كلاًّ منهما سبب.
و أمّا نسبة الفعل إلى العبد الّذی له القدرة فكنسبة التغذیة إلى البدن أو النفس الّذی له القوّة، فكما لایقال: إنّ المغذّی هو البدن أو النفس مع أنّ السبب موجود، فكذا ینبغی أن لایقال: إنّ الفاعل هو العبد، و إلّا فما الفرق بینهما.
ثمّ انظر إلى افترائه حیث قال: «مع أنّها لیست بصادرةٍ عنها عند المعتزلة و غیرهم» أ لم یستبن له أنّ من أثبت هذه القوى من العدلیة قال: إنّ هذه الأفعال صادرة عنها بلا تجوّز و لامریة فی ذلک قطعاً، إنّما ینفیه عنها من نفاها.
و الثانی من الدلائل: إنّه لا یشکّ عاقل فی أنّه یصحّ منّا أن نشكر المنعم علینا المحسن إلینا، و لا شبهة فی أنّ الشكر لیس إلّا على الفعل دون المحلّیة أو العزم أو السببیة، و إلّا لجاز شكر المنعَمـ اسم مفعولـ فإنّه محلّ، و شكر العازم على الإنعام الّذی تظهر علامة عزمه بوجهٍ آخر غیر الإنعام، و شكر الإكرام الّذی صار سبباً للإنعام، و الكلّ ظاهرة الفساد.
و الثالث: أنّه لو كانت أفعالنا صادرة عن اللّه تعالى لكان أمرنا و نهینا عبثاً بل سفهاً، فإنّ أحداً لا یأمر غیره بفعل نفسه.
و لا یمكن أن یقال: إنّ الأمر و النهی یتعلّقان بالعزم، فإنّا نعلم ضرورةً أنّ العزم على المعصیة لیس معصیة، فلو كان منهیاً عنه لكان معصیة.
و الرابع: إنّه لو كان الفاعل للأفاعیل هو اللّه تعالى لكان یجب أن تنسب إلیه تعالى، فیقال له: ظالم، ضارب، آكل، زانی، سارق، تعالى عن ذلک علوّاً كبیراً.
و أمّا ما ذكره شارح «المقاصد» من قوله:
«و هذه الشبهة كنّا نسمعها من حمقى العوام و السوقیة من المعتزلة، فنتعجّب حتّى وجدنا فی كتبهم المعتبرة، فتحقّقنا أنّ التعصّب یغطّی على العقول، و تعمى القلوب الّتی فی الصدور، و لا أدری كیف ذهب علیهم أنّ مثل هذه إنّما تطلق على مَن قام به الفعل لامن أوجد الفعل، أوَ لایرون أنّ كثیراً من الصفات قد أوجدها اللّه تعالى فی محالّها وفاقاً و لا یتصّف بها إلّا المحال. نعم، إذا ثبت بالدلیل أنّ الموجد هو اللّه تعالى لزمهم صحّة هذه الشبهة ]فی شرح المقاصد: التسمیة.[ بناءً على أصلهم الفاسد من إطلاق المتكلّم على اللّه تعالى لإیجاده الكلام فی بعض الأجسام، و كان قول القائل لخصمه: «قولک باطل» حجّة، لكونه كلام اللّه تعالى عن ذلک علوّاً كبیراً.» ]شرح المقاصد 4: 256[.
فهو قول مهجور، قائله عن الحقّ لمهجور، فلاَنّ كلامه هذا لخبطٌ بعد خبطٍ بعد خبطٍ.
أمّا أوّلاً: فلأنّه لم یفرّق بین الأفعال المتعدّیة و بین الصفات اللازمة، فتوهّم أنّه كما یكفی أن یقال لما قام به البیاض: «أبیض» و لا یجوز أن یقال لخالص البیاض: «أبیض» فكذلک یقال لما قام به الضرب و هو الكاسب: «ضارب»، و لایقال: «ضارب» لمن خلق الضرب بواسطة كسبه، و لم یدر أنّ الفعل إنّما یدور بین الفاعل و المفعول، فإن كان الفعل متعدّیاً نسب القیام إلى كلّ واحدٍ من الفاعل و المفعول، و إذا كان لازماً فلا ینسب قیامه إلّا إلى الفاعل، إذ لا مفعول له ینسب إلیه.
و تحقیق ذلک أنّ كلّ حدث تعدّى من الفاعل إلى مفعولٍ فهو نسبة بین الفاعل و المفعول، و كلّ نسبة لابدّ أن یكون قائماً بكلٍّ من المنتسبین، مثلاً الضرب نسبة بین الضارب و المضروب، قائم بهما، و من هنا تقوم الضاربیة بالفاعل، و المضروبیة بالمفعول.
و أمّا إذا كان الحدث لازماً لایتعدّى إلى مفعولٍ ـ كالقیام و القعودـ فلیس بنسبة البتّة لیكون له متعلّقان یقوم بكلٍّ منهما، فیكون له متعلّق واحد هو الفاعل.
فقد علم من هذه الجملة أنّ كلّ حدث فهو إنّما ینسب إلى فاعله أو مفعوله، فإذا نسب إلى الفاعل اُتی بإسم الفاعل، و إذا نسب إلى المفعول اُتی بإسم المفعول، یقال:«ضارب» للفاعل، و «مضروب» للمفعول، و هذا ممّا لا یشكّ فیه المبتدؤن فی الصرف، فضلاً عن الكاملین فی الكلام.
و أمّا نسبة الفعل بصیغة اسم الفاعل إلى غیر الفاعل فممّا لا یشهد به عقلٌ و لا نقل. و أمّا البیاض و السواد و العلم و غیرها فهی أیضاً إنّما تقوم بفاعلها و هو المبیض و المسوّد و العالم، لا من أوجد البیاض و السواد و العلم، فإنّه إنّما یكون فاعلاً للتبییض و التسوید و التعلیم، و هذا ممّا لا یشكّ فیه عاقل.
و بالجملة، فقد ظنّ هذا الفاضل أنّ المراد بالفاعل هو الموجد، و لیس كذلک، بل المقصود ما ذكرنا، و إذا كان كذلک فلا شبهة فی أنّ فاعل الزنا و السرقة و الظلم على مذهبهم لیس إلّا اللّه القدّوس، فیلزم أن یكون هو الزانی، و هو السارق، و هو الظالمـ تعالى عمّا یقول الظالمون علوّاً كبیراً.
فافهم هذه الجملة، فإنّ مَن وعاها فوقاها وُقی من حرّ نار عنادهم، و صرّ ریاح لدادهم. ]أی خصومتهم، قال الله تعالی: )قَوماً لُدّاً) أی شدید الخصومة[ أعاذنا اللّه و سائر عباده المخلصین من شرّهم و سرّهم و حرّهم و قرّهم و ضرّهم و مُرّهم و صِرّهم.
و أمّا ثانیاً: فلأنّه ]أی شارح المقاصد.[ توهّم أنّ قولهم: «إنّ اللّه هو المتكلّم» مبنی على أنّ المتّصف بالشیء موجده لا مَن قام به، و ذلک بهتانٌ مبین، فإنّ الحقّ فی تقریر مرامهم و تحریر كلامهم ـ على ما حقّقناه فی بعض المواضع ـ أنّه لا شبهة فی أنّه لا یمكن إطلاق المتكلّم حقیقةً على اللّه تعالى، سواء جعل الكلام نفسیاً أو لفظیاً.
أمّا اللفظی فظاهر، و أمّا النفسی فلأنّ لفظ الكلام إنّما یطلق حقیقةً على ما یتكلّم به و یلفظ، لا ما یقصد و یضمر. و ما ادّعوه من كونه حقیقة فیه هذر، و استشهادهم بقول الشاعر ]إنّ الکلام لفی الفؤاد و إنّما
جعل اللسان علی الفؤاد دلیلاً[. إمارة محجوبیتهم.
فإذا كان على التقدیرین مجازاً لابدّ من ترجیح أحد المجازین على الآخر، أو التردّد و الرجحان لأن یكون باعتبار الخلق، فإنّه حینئذٍ یكون إسناد التكلّم مجازیاً، و لا یكون فی اللفظ مجاز بوجهٍ.
و أمّا إذا كان الكلام بمعنى الكلام النفسی فیكون المجاز فی اللفظ، و قد تقرّر عندهم أنّ المجاز اللفظی لابدّ فیه من قرینةٍ صارفة عن المعنى الحقیقی. و أمّا فی الإسناد المجازی فیكفى فیه الاعتماد على العقل، فلمّا لم تكن ههنا قرینة على أن یكون المراد بالكلام هو النفسی ـ و لذا التجاؤا إلى القول بكونه حقیقة فیه ـ وجب المصیر إلى المجاز الّذی لا یحتاج إلى قرینة، و هو الإسناد المجازی.
و هذا كلام مثبت فی أراضی الأذهان بأوتاد التحقیق، و موثق على ظهور الأفهام بحبال التدقیق، فَلْیعَ بالآذان، ثمّ لْیقَ فی ألواح الأذهان.
و أمّا ثالثاً: فلأنّ قوله: «و كان قول القائل لخصمه: قولک باطل حجّة لكونه كلام اللّه» كلام یستشمّ منه رائحة كثیفة الخلط و الذهول، فإنّ الكلام الاختیاری للعبد لیس بإیجاد اللّه تعالى على مذهبنا معشر العدلیة، لیلزم أن یكون حجّة على ما زعم، إنّما یلزم ذلک على ما ذهبوا إلیه، و هو فی غایة الظهور عند بدایة العقول.
و الخامس من الدلائل: إنّ نهاء ما یبلغ إلیه كلامهم هو أنّ اللّه ـ عزّ و علا ـ أجرى عادته بأن یخلق الفعل إذا عزم العبد، و لا یخلقه إذا لم یعزم، و هذا یقتضی أن لا یكون لغیر العزم مدخل من جانب العبد، بل یكون كلّما عزم العبد على فعلٍ وقع، و كلّ ما كرهه لم یقع. و لیس كذلک بالظاهر، لأنّا نعلم ضرورةً أنّ الدواعی أیضاً لها مدخل فی الفعل، و أنّ الصوارف لها مدخل فی الترک، حتّى أنّا لو عزمنا و صَرَفَنا صارفٌ لم نفعل ذلک الفعل البتّة، فعلم أنّ ما ادّعوه من إجراء عادته على ذلک وهمٌ فاسدٌ.
و السادس منها: لو كان اللّه هو الّذی أوجد فی العصاة العصیان، و فی الكفّار الكفر، لزم أن یكون العقاب على المعاصی و الكفر ظلماً، كمن حبس رجلاً ثمّ ضربه لقعوده عن إجابة دعوته، و هل هذا إلّا ظلم، تعالى اللّه عن الظلم و عمّا یقول الظالمون علوّاً كبیراً.
قیل:
إنّ الظلم إنّما یلزم لو كان تصرّفاً فی ملک غیره، و أمّا إذا كان العباد كلّهم عباد اللّه تعالى فلا علیه أیاً ما یفعل، فله أن یخلق بدل المعاصی العقاب كما یخلق بدل المرض الموت، و لا شیء یمنع عنه، و لا یسأل عمّا یفعل.
و أیضاً یجوز أن یكون العقاب للعزم الّذی صار سبباً لخلق اللّه المعاصی و إن لم یكن العزم مطلقاً ممّا یصلح لأن یكون مؤدّیاً إلى العقاب، كما یقول السید لعبده: لاتسألنی كذا، فإنّک إن سألته أعطیتک و ضربتک، فإذا سأل فأعطاه فضربه لم یعدّ ظلماً، فإنّه لیس مجبوراً، إذ یمكنه أن لا یسأل، فكذا هنا نقول: إنّ اللّه تعالى قال لعباده: لا تعزموا على كذا و كذا، فإنّكم إن تعزموا علیه فعلته لكم و عذّبتكم علیه، فإذا عزموا على معصیةٍ ففعلها اللّه تعالى لهم، فعذّبهم، لم یعدّ ذلک ظلماً، فإنّهم لیسوا مجبورین على ذلک، إذ یمكنهم أن لا یعزموا فلا یعذّبوا.
لایقال: إنّ العزم أیضاً مخلوق للّه تعالى عندكم، فیلزم الجبر لا محالة، إذ لایمكنهم حینئذٍ أن لایعزموا.
لأنّا نقول: إنّ العزم منشؤه الشهوة و الغضب، و هما و إن كانا مخلوقین للّه تعالى إلّا أنّهما لا یلجآن صاحبهما إلى العزم، لیلزم الجبر.
هذا … و أقول: فیه وجوه من الكلام:
أمّا أوّلاً: فلأنّ هذا المتبلّد الغبی لم یفهم معنى الظلم و لذلک ظلم عن الحق، فإنّ الظلم لا معنى له إلّا وضع الشیء غیر موضعه ـ على ما صرّح به أهل اللغة، و یشهد به العرف ـ سواء كان فی ملک الظالم أو ملک غیره، فما لَحَسَه من أنّه تعالى إنّما یتصرّف فی عباده، و تصرّف الشخص فی ملكه لیس بظلمٍ أنجس ممّا لحسه شیخه شیخ الأبالسة، ألم ینظر إلى قوله تعالى: (وَ أنَّ اللّهَ لَیسَ بِظَلّامٍ لِلْعَبیدِ) ]آل عمران: 182؛ الأنفال: 51؛ الحجّ: 10.[ و (مَا اللّهُ یریدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) ]غافر: 31.[ و من البین الضروری عند كلّ ذی بصیرةٍ أنّه لا یجوز مثل هذا الكلام إلّا إذا سمّی الجور على العباد ظلماً، ولكن العمّة البصائر و الأبصار صمّ عن آیات اللّه العزیز الجبّار.
و أمّا ثانیاً: فلأنّ المرض و الموت إنّما هما عدمیان، لیسا ممّا یمكن أن یقال: خلقه اللّه تعالى، فإذا مرض شخص فإنّما انعدم عنه ما كان قد شمله من نعمة الصحّة، و كذا إذا مات فإنّما انعدم عنه ما قد كان شاملاً له من نعمة الحیاة، و إزالة النعمة عن شیء لا یكون ظلماً البتّة، و أمّا العقاب، فهو تسلیط المؤلم علیه، و إیجاد الألم فیه، فهو ظلم؛ فویل لمن تنكّب عن الحقّ المعلوم، و قاس الموجود إلى المعدوم.
قال بعض مَن قارب عصرَنا من فضلاء أصحابنا:
إنّ الكلام فی الأفعال التكلیفیة الاختیاریة، و المرض و الموت من الأفعال الطبیعیة الاضطراریة، فهذا الفرق یدلّنا على الفرق بین وضعهما و وضع التعذیب فی موضع الكفر. وههنا فرق آخر، و هو أنّ ما نحن فیه من الأفعال یقع بعضها كالتعذیب جزاءً للاخر كالمعصیة، و لیس الأمر فی الموت و المرض كذلک و إن استعقب المرض الموت فی بعض الأحیان، على أنّا لانسلّم وضع الموت فی موضع المرض، بل كلّ منهما ألمٌ خاصّ یوضع فی موضعه، فإنّ الإیلام إنّما یكون ظلماً إذا لم تكن فیه مصلحة بها یترجّح فعله بحسب الحكمة، و كثیراً مّا یكون الإیلام متضمّناً لمصالح عظیمة لا یكون بها ظلماً، كما حقّق فی بحث الآلام من علم الكلام، انتهى عبارته بألفاظها.
أقول: فیه وجوه من الوهن:
أمّا أوّلاً: فلأنّ الفرق بین المقیس و المقیس علیه بما ذكر من أنّ المقیس اختیاری و المقیس علیه اضطرارى لا یجدی، فإنّه حینئذٍ یكون القیاس أظهر، فإنّه یجوز بالاتّفاق قیاس الأدنى على الأعلى، و على هذا فیكون المعنى أنّه كما یعقّب اللّه تعالى المرض بالموت مع أنّ المرض لیس باختیار المریض، فبالطریق الأولى یجوز تعقیب العصیان بالعقاب، فإنّ العصیان قد عزم علیه العاصی، فكان بهذا الاعتبار اختیاریاً، و لا شکّ أنّه لا یدفع هذا الكلام ما ذكره ذلک الفاضل.
و أمّا ثانیاً: فلأنّا إن سلّمنا كون المرض من الأفعال الطبیعیة فلا نسلّم أنّ الموت منها، بل الحقّ عند من تأنّق أنّ الموت إنّما هو من أفعال اللّه تعالى بلا توسّط الطبیعة، و هذا أشبه بما تقرّر عندنا من تعدّد الأجل ]من المعلّق والحتمی[. كما لا یخفى.
و أمّا ثالثاً: فلأنّ للخصم مجال أن یمنع كون العقاب جزاءً للعصیان.
و أمّا ثالثاً: فلأنّ كلمة «لایسئل عمّا یفعل» كلمة حقٍّ یراد بها باطل، و قد تداولها هؤلاء الضالّون من زمن شیخهم مَلِكِ الغاوین و رئیس العادین، و لم یفهموا معناه، و لم یعلموا مبناه، و ذلک لأنّ مبنى هذه الكلمة الطیبة ما ذهبنا إلیه معشر العدلیة من أنّ اللّه تعالى لا یفعل شیئاً إلّا لغرضٍ و مصلحة، و لا یؤثّر إلّا ما هو الأصلح، فمعنى هذه الكلمة أنّه تعالى لا یسئل عمّا یفعل، فإنّ السؤال إنّما یكون عمّا یحتمل القبح أو المرجوحیة، و أفعال اللّه تعالى كلّها راجحة لا قبح فیها أصلاً، فلذلک لا یسئل عنها.
و أمّا رابعاً: فلأنّ جعل الشهوة و الغضب سببین للعزم لا یجدی، إلّا إذا قیل بأنّهما مستقلّان فی اقتضاء العزم، و هو خلاف ما ذهبوا إلیه، فإنّهم لا یثبتون خالقاً غیر اللّه تعالى.
و أمّا خامساً: فلأنّا ننقل الكلام إلى صیرورة الشهوة و الغضب أهو باختیار العبد؟ كلّا على مذهبكم، بل هو أیضاً من أفعال الباریـ عزّ إسمه ـ فعاد المحذور.
قال بعض مَن قارب عصرنا:
إنّ قیاس هذه المعاصى من العباد على فعل العبد لیس بصحیح، فإنّهم قائلون بأنّ اللّه تعالى أراد العصیان من عباده، و أمّا هذا العبد فمولاه لم یرد عصیانه، فلذلک إذا ضربه لم یكن ظلماً. نعم، لو قاسها بفعل العبد إذا أذنه المولى كان صحیحاً إن صحّ الحكم فی المقیس علیه.
أقول: لا وجه لهذا الكلام على ما ذهبوا إلیه من أنّ اللّه تعالى یرید المعاصی ولكن لا یرضاها، فإنّهم ساووا بین المعصیة المرادة و غیر المرادة، و لم یجعلوا للإرادة و عدمها مدخلاً فی صغر الذنب و كبره. نعم، یأتی الكلام فی أصلهم ذلک، فلنتكلّم هناک. و أمّا ههنا فلیس مضمار هذه المطاردة.
الدلیل السابع: إنّه لو كان اللّه فاعل هذه الأفعال لكان مریداً لها، لأنّ الفاعل المختار لا یفعل إلّا بالإرادة، فیلزم أن یكون الكفر من الكافر مراداً للّه تعالى، و الإیمان منه مكروهاً له تعالى، أو لا مراداً و لا مكروهاً، و إذا كان الكفر مراداً كان طاعة، فإنّ الطاعة لامعنى لها إلّا امتثال أمر اللّه تعالى، والأمر لامعنى له إلّا إرادة الفعل، و إذا كان الایمان مكروهاً كان معصیة، فإنّ المعصیة إنّما هو ترک ما اُمر به، أو فعل ما نهی عنه، و النهی لا معنى له إلّا إرادة الترک، و هی مستلزمة لكراهه الفعل، فكلّ مكروهٍ منهی عنه، و قد فرض الإیمان مكروهاً فیكون منهیاً عنه، فهو معصیة. و إن كان الإیمان لا مكروهاً و لا مراداً كان مباحاً، و القول بهذه التوالی جُمَع أو واحدٍ منها كفر، فالقول بأنّ اللّه فاعل جمیع أفعال العباد كفر.
قیل فی الجواب:
لیس كلّ مرادٍ فهو مأمور به، و لا كلّ غیر مرادٍ فهو منهی عنه، فإنّ الأمر إنّما یستلزم الرضاء و هو غیر الإرادة، إذ قد یوجد الإرادة بدون الرضاء كما فی شرب دواءٍ مرّ للمرض، فإنّه مراد و مكروه، و ضدّ الإرادة لیس إلّا عدم الإرادة دون الكراهة، بل هو ضدّ الرضاء، فقد علم أن لیس كلّ مرادٍ طاعة و لا كلّ غیر مرادٍ معصیة، ألا ترى أنّ اللّه قد أراد من الثلج البیاض و لم یرد السواد، و لایقال: إنّ بیاضه طاعة و سواده معصیة.
هذا …أقول: و علیه جروح لا قصاص لها.
أمّا أوّلاً: فلأنّ غایه ما احتاله أنّ الإرادة قد تنفکّ عن الرضاء، و الكفر موافقة الإرادة دون الرضاء، و الطاعه موافقة الرضاء، دون الإرادة، و لا یخفى على ذی فطنة أنّه یعلم علماً قطعیاً ضروریاً أنّ إرادة شخصٍ ما لا یرضاه بل یكرهه، أو عدم إرادته ما رضیه ممّا لا یمكن إلّا إذا التجأ إلى ذلک و افتقر إلیه كما فی مثل شرب المُرّ، فإنّه قد التجأ إلیه لمرضٍ یدفع بشر به، و من أنكر هذا الخطاب فلیس أهلاً للمؤاخذة و العتاب.
و إذا ثبت هذا علم أنّ اللّه الحكیم القدیر الغنی على الإطلاق لا یرید إلّا ما یرضاه، و لا یكره إلّا ما لا یرضاه، و إلّا لزم الاحتیاج إلى الغیر، تعالى عن ذلک علوّاً كبیراً.
و إذا ثبت هذا فقد تأسّس ما ذكرناه من الدلیل، و تهدّم ما بنوه من التخییل و التسویل.
و أمّا ثانیاً: فلأنّ ما ادّعوه هؤلاء العمّة القلوب و الأبصار من أنّ الإرادة قد تتحقّق بدون الرضاء خلاف ما یشهد به الوجدان، فإنّ إرادة ما یكره إنّما یصدر عن السفیه أو المجنون، على توقّفٍ فیهما.
و أمّا ما مثّلوا به من شرب المُرّ لدفع المرض فهو فی غایة المرارة، فإنّ الرضاء بالشرب أیضاً حاصل ههنا، لأنّه وسیلة إلى دفع الألم، و إنّما المفقود فیه هو الشوق الجبلّی.
و أمّا ثالثاً: فلأنّه لم یفرق بین قولهم: أراد كذا، و أراد مِن فلانٍ كذا، إنّ اللّه لایقال: أراد من الثلج البیاض، فإنّه لا یطلق ذلک إلّا إذا كان مدخول «من» مختاراً فی ذلک المراد، كما یقال: أراد من زیدٍ الإیمان، و أمّا نحو بیاض الثلج فإنّما یقال: أراد بیاض الثلج، و كم بین المعنیین من فرقٍ لا یخفى إلّا على مَن هام فلم یستفق.
الدلیل الثامن: إنّه یلزم أن یكون اللّه تعالى سفیهاً، تعالى عن ذلک علوّاً كبیراً.
بیانه: أنّه یأمر بما لا یرید، و ینهى عمّا یرید، و إنّا نعلم ضرورةً أنّ من أمر منّا بشیء لا یریده أو یرید تركه، أو ینهى عمّا لا یكرهه أو یریده یعدّ سفیهاً.
قیل فی الجواب:
إنّا لانسلّم أنّ الأمر بما لا یرید و النهی عمّا یرید سفه، إنّما یكون سفهاً لو لم تكن فیهما مصلحة اُخرى كإظهاره المطیع من العاصی، وإقامة الحجّة على الكافر و العاصی، ألا ترى أنّه یجوز أن یأمر السید عبدَه بما یرید منه أن لا یفعله، و ذلک إذا هدّده مَلِكٌ لضربه العبد، فاعتذر إلیه أنّه یعصیه فیما یأمره، و كذا یجوز أن یأمر السلطان أعداءه بأمرٍ لیعصوه فیقوم علیهم الحجّة، فیجازیهم، و غیر ذلک من المصالح الّتی تصلح لأن تكون للأمر و النهى.
انتهى ما تمحّلوه هؤلاء الهائمون الّذین هم للباطل یشرعون، و عن الصدق إلى المین یسرعون.
و فیه وجوه من الخبث:
أمّا أوّلاً: فلأنّک قد علمت أنّ الطاعة إنّما تكون بما یراد، و المعصیة بما لا یراد بل یكره، فالأمر و النهی لحكمة إظهار المطیع من العاصی إنّما یتصوّر إذا اُرید بالأمر المأمور به، و كره بالنهی المنهی عنه، و إلّا لم یتحقّق الإطاعة و العصیان ضرورةً.
و قال بعض مَن قارب أواننا هذا فی ردّ هذه الفقرة:
إنّ المستدلّ ادّعى الضرورة فی الحكم باستحالة الأمر بما لا یراد و النهی عمّا یراد من العاقل، فلا یسمع ما یدّعیه المجیب، فإنّه فی مقابلة الضرورة، و لا تُسمع دعوىً تُقابل الضرورة.
و أنت خبیر بأنّه لا یسمن و لا یغنی من جوع، فإنّ المجیب إنّما یقول: إنّ الضرورة إنّما تقتضی كون الآمر بما لایریده و لایرید فیه مصلحة، و الناهی عمّا یریده و لا یرید بالنهی مصلحة سفیهاً، لا مطلق الآمر بما لا یرید، و الناهی عمّا یرید؛ و مثل هذه الدعوى تسمع، و لیس هو فی مقابلة الضرورة، و مَن ادّعى عموم الضرورة لم یسمع ادّعاؤه، فالوجه فی الردّ ما ذكرنا، فَقِهِ. ]من الوقایة أی فاحفظه.[.
و أمّا ثانیاً: فلأنّا لانسلّم أنّه قد تحقّق فی هذه المقامات أمر حقیقةً، بل الحقّ أنّ الموجود إنّما هو صیغة الأمر بلا معناه، و أمّا أوامر اللّه تعالى فلیست كذلک اتّفاقاً.
و أمّا ثالثاً: فلأنّ المدّعى إنّما یثبت لو كان فی هذه المقامات طلب فعلٍ و لاتكون إرادة، إذ لو لم یكن طلب الفعل و لاتكون إرادة لایفید ههنا، فإنّ اللّه تعالى قد طلب الأفعال و مع ذلک لم یردها، و وجود طلب الفعل ههنا ممنوع، و إذا لم یكن طلب الفعل لم یكن من موضع النزاع.
قیل فی ردّ هذا الجواب:
إنّه لا یجوز أن لا یكون الأمر هنا لطلب الفعل، فإنّه لا یخلو:
إمّا أن یكون باقیاً على حقیقته و مع ذلک لم یرد الطلب، و ذلک ظاهر الفساد، فإنّه حینئذٍ یكون غلطاً.
أو لایكون باقیاً على حقیقته بل یكون مجازاً، فلا بدّ له من قرینة، و لو نصبت لأخلّت بالمقصود، فإنّه حینئذٍ یعلم العبد مصلحة الأمر فیطیع، فیختلّ ما قصده المولى من الاعتذار.
و أنت تعلم أنّه لا یجب أن تنصب قرنیة لفظیة یفهمها العبد، بل تكفی الحالیة الّتی لایفهمها سوى المولى و المَلِک، و هو فی غایة الظهور.
و أمّا رابعاً: فلأنّهم أثبتوا القاعدة الكلّیة، و هی أنّ أوامر اللّه تعالى و نواهیه كلّها بالنسبة إلى العصاة لم تُلاحظ فیها الإرادة بهذه الأمثلة الجزئیة الّتی ذكروها، و هذا غیر جائز.
و فیه: أنّهم ما أثبتوا القاعدة بهذه الأمثلة، بل إنّما أثبتوها بما زعموه برهاناً، و إنّما ذكروا هذه الأمثلة مؤیدات.
الدلیل التاسع: إنّه إذا لم یستحقّ المطیع ثواباً، و لا العاصی عقاباً لكون الإطاعة و المعصیة فعل اللّه تعالى و لا یجب على اللّه شیء، لجاز أن یعذّب سید المرسلین بالعذاب الدائم، و یثاب إبلیس و فرعون و هامان بالثواب الدائم، و حینئذٍ فلا فائدة للطاعة، و لا مضرّة للمعصیة، فیكون الزاهد سفیهاً، و یختلّ الشرع و النظام، و یكون الإرسال و الإنزال عبثاً و سفهاً.
قیل فی الجواب:
إنّا إنّما ندّعی أنّ الأطاعة و المعصیة بالذات لایوجبان الثواب و العقاب، و أمّا بعد التكلیف فالطاعة صارت علامة و سبباً مرجّحاً للثواب و إن لم ینته الترجیح إلى حدّ الوجوب، و كذا المعصیة صارت سبباً مرجّحِاً للعقاب و إن لم ینته إلى حدّ الوجوب، و أمّا جواز وقوع العقاب للمطیع و الثواب للعاصی فقد اضمحلّ فی طراد ]أی فی وجوب[. وجوب الوفاء بالوعد و الوعید.
هذا ما زحّاه من الأكاذیب الفاسدة و روّجه من البضائع الكاسدة.
و أقول: فیه شرود عن الإصابة من وجهین؛
أمّا أوّلاً: فلأنّ الترجیح الغیر المنتهى إلى حدّ الإیجاب لایفید، إذ لا یدرء جواز خلافه، فعاد ما قلنا من جواز عقاب المطیع و إثابة العاصی، فعاد المحذور بحذافیره. ]أی بتمامه.[.
و أمّا ثانیاً: فلأنّ ما ذكره من وجوب الوفاء بالوعد و الوعید ذهولٌ عن أصله و عقیدته، فإنّه لا یجب على اللّه فی أصلهم شیء، فیجوز أن لا یفی بما وعد أو أوعد، فعاد المحذور.
الدلیل العاشر: إنّه لو كاناللّه تعالى خالقاً للمعاصی والكفر والضلال لجاز أن تكون الأنبیاء كلّهم كاذبین، نصرهم اللّه بالمعجزات إضلالاً للناس، لما جرت عادته من تضلیل أكثر الناس. قال تعالى: (وَ قَلیلٌ مِنْ عِبادی الشَّكُورُ) ]سبا: 13.[ و (قلیلٌ ما هم) ]ص:24.[ إلى غیر ذلک، فینهدم الدین و الشرع و ما یبتنیان علیه. أعاذنا اللّه و سائر عباده الصالحین من هذه العقیدة المفضیة ]أی المنجرّة.[ إلى مثل هذه الشنیعة.
قیل فی جوابه:
إنّ سنّة اللّه لم تجر على إضلال الناس مطلقاً، بل إنّما جرت بإضلال مَن اختار أسبابه، و أیضاً جرت العادة بأن لا یخلق المعجزة على أیدی الكذّابین، و أن لا یكون الرسول إلّا نفساً خیرة، غیر كاذبّه، داعیة إلى الخیر.
هذا … و أقول: فیه شروس عن الصواب من وجوه:
الأوّل: إنّا قد ذكرنا أنّ اختیار أسباب الضلال أیضاً من فعل اللّه على مذهبهم، و ما تستّر به … من أنّ العزم ناشٍ عن القوّتین الشهویة و الغضبیة فقد عرفت أنّه لا یسمنهم إلّا مِن فضلات وساوس إبلیس، فهذا هو المبنى، فقس علیه السقف.
الثانی: إنّ جریان عادة اللّه إنّما یعلم بالمشاهدة أو ما فی حكمه، فما أدراه أنّه قد جرت عادة اللّه تعالى على أن لا یخلق البینات على ید الكاذب، و بأی طریقٍ یعلم أنّ الأنبیاء لیسوا كاذبین مفترین على اللّه تعالى؟
الثالث: إنّ قوله: و أن لا یكون الرسول … غفولٌ عن تَسَكُّعٍ، فإنّ ما ادّعاه من أنّ الرسول لا یكون إلّا نفساً خیرة، مسلّمٌ و النزاع فی أنّه یجوز أن یكون الرسل كاذبین غیر مرسلین من اللّه تعالى.
الدلیل الحادی عشر: إنّه إذا كان كلٌّ من الطاعات و المعاصی أفعال اللّه، و لا یجب علیه تعالى شیء ـ على زعمهم ـ لزم أن تكون الإثابة على الطاعات و العقاب على المعاصی ممكناً لا واجباً، فیلزم أن لایكون لهم جزم بنجاتهم، و هل هذا إلّا تهاون فی الدین لعدم التعویل علیه و الإذعان له؟
كما نقل أنّه جاء إلى … أبیبكر، جاثلیق من النصارى، فسأله فقال: أخبرنا أیها الخلیفة! عن فضلكم علینا فی الدین؟ فإنّا جئنا نسأل عن ذلک.
فقال أبوبكر: نحن مؤمنون و أنتم كفّار، و المؤمن خیر من الكافر، و الإیمان خیر من الكفر.
فقال: هذه دعوى یحتاج إلى حجّة، فخبّرنی أنت مؤمن عنداللّه أم عند نفسک؟
فقال أبوبكر: أنا مؤمن عند نفسی و لا أعلم بما لی عنداللّه.
فقال: فهل أنا كافر عندک على مثل ما أنت مؤمن، أم أنا كافر عنداللّه؟
فقال: أنت عندی كافر، و لا أعلم مالک عنداللّه.
فقال الجاثلیق: فما أراک إلّا شاكّاً فی نفسک و فی، و لستَ على یقینٍ من دینک، فخبّرنی ألک عنداللّه منزلة فی الجنّة بما أنت علیه من الدین تعرفها؟
فقال: لی منزلة فی الجنّة أعرفها بالوعد، و لا أعلم هل أصِلُ إلیها أم لا؟
فقال: فترجو لی أن تكون لی منزلة فی الجنّة.
قال: أجل، ]أی نعم.[ أرجو ذلک.
فقال الجاثلیق: فما أراک إلّا راجیاً لی و خائفاً على نفسک، فما فضلک علی فی العلم.
ثمّ قال سلمان: فكأنّما ألبسنا جلباب المذلّة، فنهضت حتّى أتیت علیاً، فأخبرته الخبر، فأقبل ـ بأبی و اُمّی ـ حتّى جلس، و النصرانی یقول: دلّونی على مَن أسأله عمّا أحتاج إلیه.
فقال له أمیرالمؤمنین: یا نصرانی! فوالّذی فلق الجنّة و برأ النسمة ]أی العباد.[ لا تسألنی عمّا مضى و ما یكون إلّا أخبرتک به عن نبی الهدى محمّد صلی اللّه علیه و آله.
فقال النصرانی: أسألک عمّا سئلت عنه هذا الشیخ. خبّرنی أمؤمن أنت عنداللّه أم عند نفسک؟
فقال أمیرالمؤمنین علیهالسلام أنا مؤمن عنداللّه كما أنّنی مؤمن فی عقیدتی.
قال الجاثلیق: أللّه أكبر، هذا كلام واثقٍ بدینه، متحقّق فیه بصحّة یقینه، فخبّرنی الآن عن منزلتک فی الجنّة ما هی؟
فقال: منزلتی مع النبی الاُمّی فی الفردوس الأعلى، لا أرتاب لذلک، و لا أشکّ فی الوعد به من ربّی.
هذا ما ذكره الإمام علی بن موسى بن جعفر بن محمّد بن محمّد الطاووس العلوی الفاطمی ـ رضی اللّه عنه و أرضاه ـ فی كتاب «التحصین لأسرار ما زاد من أخبار كتاب الیقین» ناقلاً عن الحسن بن أبی طاهر أحمد بن محمّد بن الحسین الجاوانی فی كتابه «نور الهدى و المنجی من الردى» ثمّ ساق الحدیث إلى آخره. ]راجع: الیقین باختصاص مولانا علیّ بإمرة المؤمنین. تحقیق الأنصاري: 641 ـ 637.[.
فهذا الحدیث صریح فی أنّ ذلک الشیخ توهّم ما لزم هؤلاء، و أنّ أمیرالمؤمنین ـ علیهالسلام ـ قد بین، فلذلک ذكرنا القصّة بأكثرها، ولی فیها مآرب ]أی حوائج.[ اُخرى.
قیل فی الجواب:
إنّه إن أراد بلزوم الشکّ فی الإثابة لزومه نظراً إلى ذات الطاعة و المعصیه فهو مسلّم، و لا یلزم منه تهاون فی الدین و توانٍ ]أی ضعیف.[ فی الإذعان، و إن أراد به لزومه نظراً إلى الوعد الواجب الإنجاز فكلّا، فإنّا نجزم بالجزاء بالوعد والوعید، فلا یلزم الشکّ الموجب للتهاون بالدین.
هذا … و أقول: لقد هام هذا المكتظّ ]اکنظّ: امتلأ و اشتدّ امتلاؤه.[ قلباً من الدقاریر ]الأباطیل.[ فی فیافی ]الفیف: الصحراء الواسعة المسنوبة. بین جبلین. والمکان تضطرب فیه الریاح.[ الوساوس و التزاویر، فإنّه قد نسی ما سوّل له شیخه من أنّه لا یجب على اللّه تعالى شیء حتّى الإیفاء بما وعد، و إذا كان زعمهم ذلک فیلزم الشکّ فی الجزاء بكلّ وجهٍ یؤخذ، بالنظر إلى ذات العمل أو الوعد و الوعید.
الدلیل الثانی عشر: إنّه لو كان الكفر بقضاء اللّه تعالى ـ كما قالوا ـ لوجب الرضاء به، فإنّ الرضاء بالقضاء واجب حتّى أنّه جُعل من الإیمان، مع أنّ الرضاء بالكفر كفر.
قیل فی الجواب:
إنّا نسلّم أنّه یجب الرضاء بالقضاء، إلّا أنّ القضاء لیس إلّا الكفر مثلاً، و ما لیس بواجبٍ أن یرضى به بل یجب التجنّب عن قبوله و الرضاء به لیس إلّا اتّصاف العبد به، فما یجب الرضاء به غیر ما یجب التنفّر عنه.
و قال صاحب «المقاصد» فی الجواب: إنّ الكفر مقضی لا قضاء، والرضاء إنّما یكون بالقضاء أی قضاء الكفر و فعله و تقدیره. ]راجع: شرح المقاصد 4: 278[.
أقول: أمّا الأوّل: فیردّ بأنّ العبد إنّما اتّصف بجعل اللّه إیاه متّصفاً، إذ لا شیء إلّا و هو مخلوق للّه تعالى بلا توسّط، فیلزم المحذور.
و أمّا الثانی: فقد رُدّ بأنّ نفس القضاء صفة من صفات اللّه، فكیف یتعلّق به رضاء العبد؟
و دفع بأنّه لا محذور فی تعلّق رضاء العبد بفعل اللّه تعالى أو بتعلّق صفته تعالى، و ههنا كذلک.
و مَن زعم صحّة الردّ أجاب بأنّا لا نسلّم أنّ الرضاء بالكفر مطلقاً غیر جائز، بل الرضاء بالكفر من حیث ذاته و من حیث أنّه یكتسبه العبد غیر جائز، و أمّا من حیث أنّه بقضاء اللّه تعالى فكلّا، ما الدلیل على امتناعه.
و أنت خبیر بوهن الجوابین؛
أمّا الأوّل: فلأنّه لا معنى للرضاء إلّا إرادة أن یقضی اللّه بما یقضى بلا كراهة له، فیلزم أن یجب إرادة أن یخلق اللّه فی العبد الكفر، و إرادة ذلک مستلزم لإرادة أن یكون العبد محلّاً للكفر بلا شكٍّ و ریبةٍ.
و أمّا الثانی: فلنظیر ما ذكر، فإنّ الرضاء بما هو قضاء من حیث هو قضاء یستلزم الرضاء بكسب العبد أیضاً، و لأنّ كسب العبد أیضاً بقضاء اللّه، فیلزم وجوب الرضاء به.
الدلیل الثالث عشر: لو كانت المعاصی مخلوقة لله تعالى لجاز أن یخلق الكذب فی كلامه اللفظی، فیجوز أن یكون الوعد والوعید الّذی فیه كلّه كاذباً فیرتفع الاعتماد علیه، و لا یكون رجاء و لا خوف؛ و لا یخفى ما فیه من الفساد العظیم، تعالى عنه علوّاً كبیراً.
قیل فی الجواب:
إنّا إنّما نقول بجواز خلق الكذب فی العبد، و أمّا التكلّم به والاتّصاف به فهما لا شکّ فی أنّه نقص لا یجوز على الملک القدّوس، و أمّا الكلام اللفظی فهو إن كان مخلوقاً إلّا أنّه أصدق دالّ على صفته تعالى، بدلیل إعجازه، فإنّ المعجز إنّما یعجز بصدقه و إلّا فهو السحر و الشعبدة.
انتهى … و أقول: لا فرق بین كلام العباد و الكلام اللفظی الدالّ على كلام اللّه النفسی على زعم هؤلاء فی أنّ كلّاً منهما بخلق اللّه تعالى بلا توسّط قدرةٍ اُخرى، فكما جاز أن یخلق الكذب فی أقوال العباد فلِمَ لا یجوز أن یخلقه فی الكلام اللفظی الدالّ على كلامه النفسی، فإن عاد إلى ما استجفر ]أی نوی علی الأکل.[ علیه من أكل ما أكل، من أنّه قد جرت عادة اللّه تعالى على أن لا یخلق الكذب و كذا غیره من المعاصی إلّا فیمن قصدها، عُدنا إلى ما أسلفنا من أنّ جری العادة لا یعلم إلّا بالمشاهدة أو ما فی حكمها.
و أمّا ما لحسه من أنّ المعجز صادق فیكون الكلام اللفظی صادق الدلالة على الكلام النفسی، فهو … و أبرد من نفسه، فإنّه عمى عن الباب، بل تسوّر المحراب، فإنّ صدق المعجزة لا یراد به إلّا أن یكون صادقاً فی دلالته على حقّیة المرسل، و ذلک إنّما یكون ببلاغة نظمه، و تناسق درر ألفاظه، و هو لا یستلزم صدق معناه، ألا ترى أنّ أبلغ الأشعار أكذبها، على أنّ ما ذكره إنّما یتمّ فی الكلام المعجز و هو القرآن حسب، و أمّا الكتب الاُخر فالكلام فیها باقٍ لم یفضض ختامه.
الدلیل الرابع عشر: إنّه لو كانت الأفعال مخلوقةً للّه تعالى دون العباد لم یكن تحت طوقهم، فیكون التكلیف بها تكلیفاً بما لا یطاق، و هو محال عقلاً و سمعاً.
قیل:
إنّ التكلیف بما لا یطاق إنّما یلزم لو لمتكن قدرة، لا كاسبة و لا موثّرة، و نحن لانقول بذلک، على أنّ تكلیف مالایطاق لا یمتتع عقلاً، إذ لاحسن و لا قبح عقلاً، و السمع إنّما یدلّ على عدم الوقوع لاعدم الجواز.
انتهى … و أقول: … أمّا أوّلاً: فلأنّ التبرقع بالقدرة الكاسبة من ثمار ذلک الشجر الّذی غرسه شیخهم من بذر التزویر، و قد عرفت أنّه لا یسمن و لا یغنی من جوع التقتیر، و أن لیس ما وضعوه قدرة إلّا قدْرة قد أشربوها فی قلوبهم.
و أمّا ثانیاً: فلأنّ منعه من امتناع تكلیف ما لایطاق وهمٌ قد ورّطه فیه تساویل شیخه صاحب لواء الأوهام، و بیان هذا المقام مفتقر إلى ضربٍ من الكلام، فنقول:
قال شارح «المقاصد» فی تحریر محلّ النزاع فی تكلیف ما لایطاق:
إنّ ما لایطاق له ثلاث مراتب: الاُولى ـ و هی الأقصى ـ ما یمتنع فی نفسه، كاجتماع النقیضین و قلب الحقایق، و الثانیة ـ و هی الأدنى ـ ما یمكن فی نفسه لكن یمتنع لعلم اللّه تعالى بعدمه، أو إرادته تعالى عدمه، أو إخباره بعدمه. و الثالثه ـ و هى الوسطى ـ ما یمكن فی نفسه لكن قد جرت العادة بأن لا تتعلّق به قدرة العبد، كخلق الأجسام و الصعود إلى السماء.
و لا نزاع إلّا فی المرتبة الثالثة، فإنّ الاُولى ممتنع اتّفاقا، و الثانیة جائز اتّفاقاً، فالثالثة هی الّتی جوّز الأشعری التكلیف بها بمعنى طلب تحقیق الفعل و الإتیان، و استحقاق العذاب على تركه، لاعلى قصد التعجیز لإظهار عدم الاقتدار على الفعل كما فی التحدّى بمعارضة القرآن، فإنّ التكلیف التعجیزی لا یتعلّق إلّا بما لایطاق اتّفاقاً، فلا یكون محلّ النزاع، و هذا المعنى قد صرّح به شارح «المقاصد». ]راجع: شرح المقاصد 4: 298.[.
و أنت إذا تنكّبت عن العناد، و رفضت سنن اللداد، تیقّنت أن هؤلاء الشیاطین لم یروموا بذلک إلّا التلبیس، و اقتفاء سنن رئیسهم إبلیس، فإنّ العاقل المنصف إذا راجع إلى عقله السلیم تیقّن أن لا فرق بین المحالّ الأصلی و العادی مع فرض بقاء العادة، و ما مثل العادی مع بقاء العادة إلّا كفرض وجود شیء على تقدیر وجود مثله، لا فرق بینهما یفید فی متنازعنا، و كما لا یجوّزون التكلیف بالمحال الذاتی كذلک ینبغی أن لایجوّزوا التكلیف بالمحال العادی إلّا بخرق العادة، ولكن لا تشعرون، فویل لكم و لمن تبعكم من الأشرار، ملعونین أینما ثقفوا لدى العزیز الجبّار.
الدلیل الخامس عشر: إنّه لو لم تكن أفعال العباد باختیارهم و تأثیر قدرتهم بل بقدرة اللّه ـ عزّ وجلّ ـ لزم إفحام الأنبیاء: فإنّه یمكن أن یقول لهم الكفّار: اُدع إلى ربّک أن یخلق فی الإیمان لاُؤمن بک، فإن قال النبی: «لا یخلق إلّا إذا اخترته، و قد خلق فیک القدرة، و أجرى عادته بأن یخلق الفعل عند عزمک علیه» طالبه الخصم بالدلیل على إجراء العادة، بل یقول: إنّ ذلک لیس إلّا عقیدة الأشاعرة الصاخرة الجبریة المشبّهة القدریة، أو یقول : لیكن من معجزتک أن تخرق هذه العادة.
الدلیل السادس عشر: إنّ ما ذكره هؤلاء العمّة البصائر من الكسب الّذی یفسّرونه بالعزم و القصد إنّما یتمّ فی الأفعال الظاهریة، و أمّا العقاید الباطنیة فلا معنى للعزم علیها، بل العزم هو العقیدة، مثلاً لایمكن أن یقال: قد عزم على الكفر فخلق اللّه تعالى فیه الكفر، إذ لامعنى للعزم على الكفر زائداً على الكفر، و ذلک فی غایة الظهور لمن لم یلق الحقّ وراء الظهور، و من أنكره فهو أنكر من الكلب العقور، فویل له ثمّ ویل و ثبور.
الدلیل السابع عشر: إنّ ما سوّلت لهم أنفسهم من أنّ اللّه تعالى إنّما أراد القبیح و أوجده لإرادة العبد إیاه و عزمه علیه، فلا یلزم أن یكون ظالماً، فإنّه إنّما أوجد القبیح لئلّا یلزم جبر العبد على الطاعة، فینتفی عنه استحقاق الثواب، تستّرٌ بظلمة الفضیحة، و تبرقعٌ بفظاعةٍ قبیحة، فإنّ كلّ عاقلٍ یعلم بداهةً لا یشکّ فیه أنّ الإكراه و الجبر إنّما یصدق على إرادة خلاف ما أراده المكره، دون عدم إرادة ما أراده و إلّا لزم أن یكون أكثر الناسُ مكرهاً لأكثرهم، فإنّه لایخطر ببال أكثرهم فعل أحدٍ فضلاً عن أن یرید أو لایرید، و إذا كان كذلک فإذا أراد العبد معصیة و لم یردها اللّه تعالى و لم یخلقها لایقال لذلک: إنّه تعالى جبر العبد على ترک المعصیة، و إذا كان كذلک فكانت إرادة اللّه تعالى القبیح و إیجاده قبیحاً؛ إذ لم یبق حینئذٍ فرق بین أن یرید العبد ذلک الفعل فأراده اللّه أولم یرده أحد سواه تعالى، و صدور القبیح و إرادته من اللّه محال.
و أمّا ما انجفلوا فیه ]أی سقطوا.[ من تجویز فعل القبیح متلبّسین بقوله تعالى: (یفْعَلُ اللّهُ ما یشاءُ) ]ابراهیم: 27.[.
و (یحْكُمُ ما یریدُ) ]المائدة: 1.[ فقد حثونا على رؤوس قائلیه التراب، و اللّه أعلم بالصواب.
فصل:
فی ذكر الأدلّة النقلیة على المذهب الحقّ
اعلم أنّ القرآن مملوّ من ذلک، لكنّ الاستدلال بها على أنواع:
الدلیل الأوّل: كلّ ما تضمّن من الآى مدح المؤمن و المطیع، و ذمّ الكافر والعاصی، كقوله تعالى، (وَ إبراهیمَ الَّذی وَفّى) ]النجم: 37.[ (إنَّهُ كانَ عَبْدَاً شَكُوراً) ]الإسراء: 3.[ و قوله تعالى: (تَبَّتْ یدا أبى لَهَبٍ) ]المسد: 1.[ و قد عرفت سابقاً أنّ المدح و الذّم إنّما یتعلّقان بالفعل الّذی صدوره بالاختیار، و قد مرّ تحقیقه، فلیرجع إلیه.
الدلیل الثانی: كلّ ما دلّ من الآیات على المجازات بالثواب أو العقاب، كقوله تعالى : (اَلْیوْمَ تُجْزی كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ( ]غافر: 17.[ و استحقاق الجزاء إنّما یكون بفعلٍ مختار كما أمضیناه سابقاً، فلیتذكّر.
الدلیل الثالث: كلّ ما دلّ من الآیات على استناد الأفعال إلى العباد، كقوله تعالى : فَطَوَّعَتْ )لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخیهِ فَقَتَلَهُ) ]المائدة: 30.[ و قد عرّفناک سابقاً أنّ الفِعل إنّما یستند إلى فاعله لا عازمه كما یزعمه هؤلاء الجُهّل.
الدلیل الرابع: كلّ ما دلّ من الآی على العفو و الغفران، كقوله تعالى: (عَفَا اللّهُ عَنکَ) ]التوبة: 43.[ و قوله تعالى: (وَ یغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) ]آل عمران: 31.[ و لا شکّ أنّ العفو عن فعل نفسه لا معنى له، بل إنّما هو عن فعل غیره فعلاً مختاراً.
الدلیل الخامس: كلّ ما دلّ من الآی على الإنكار على العباد، كقوله تعالى: )لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالباطِلِ وَ تَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُون) ]آل عمران: 71.[ و الإنكار إنّما یكون على الفعل الاختیاری، دون العزم و الفعل الجبری.
الدلیل السادس: ما دلّ على تفویض الفعل إلى مشیة العباد، و هو معنى كونه اختیاریاً، و لا معنى لتفویض العزم إلى المشیة، فإنّ العزم نوع مشیةٍ، على أنّه لا یجری فی قوله : (فَمَنْ شاءَ فَلْیؤمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْیكفُرْ) ]الکهف: 29.[ لما علمت من أنّ العزم على الإیمان و العزم على الكفر لا یغایر الإیمان و الكفر.
الدلیل السابع: ما دلّ على الإنكار على الّذین نفوا عن أنفسهم الاختیار، و فوّضوا أفعالهم القباح إلى مشیة اللّه ـ عزّ وجلّ ـ كقوله: (وَ قالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) ]الزخرف: 20.[.
الدلیل الثامن: ما اُمر فیه بالمسارعة و الاستباق إلى الطاعات، كقوله تعالى: (وَ سارَعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبّكُمْ) ]آل عمران: 133.[ و قوله: (فَاسْتَبِقُوا الْخَیراتَ( ]البقرة: 148؛ المائدة: 48.[.
و المسارعة و الاستباق إنّما یكون فی الأفعال الاختیاریة، و لا تجوز إرادة المسارعة و الاستباق إلى العزم، فإنّه لا یفید ثواباً و لا عقاباً، و لا یستلزم الفعل، لجواز حصول الكراهة بعده، فافهم.
الدلیل التاسع: ما دلّ على الأمر بالأفعال، و لا یتصوّر الأمر بما لایكون باختیار المأمور، و لیس العزم كافیاً فی الامتثال لیقال: إنّ المأمور به هو العزم، إذ یجوز انتفاض العزم.
الدلیل العاشر: إنّ اللّه تعالى أمر بالاستعانة باللّه و الاستعاذة من الشیطان، و لو كان اللّه مضلّاً فكیف ]تجب[ الاستعانة؟ بل تجب الاستعاذة منه، تعالى عن ذلک علوّاً كبیراً، و لو كان إیمان الكفّار معارضة للّه فی إرادته فتجب الاستعانة بالشیطان، فإنّه المعارض للّه و إن ضعف؛ نعوذ باللّه من عقیدة تستلزم هذه الشناعة.
الدلیل الحادی عشر: إنّ اللّه تعالى نفى أن تكون للناس على اللّه حجّة، و یلزم على عقیدتهم أن تكون للكفّار و العصاة على اللّه حجّة مفحمة هی: إنّک أضللتنا و أوردتنا فی مهاوی المعاصی، فإن قال اللّه فی جوابهم: إنّكم عزمتم فخلقت لإجرائی عادتی بذلک، قالوا له: لِمَ أجریت عادتک بذلک، أ فكنتُ قادراً على عدم الفعل عند العزم أم لا؟ فیقول اللّه تعالى: كنتَ قادراً و مع ذلک فعلتَ، و حینئذٍ فتتمّ حجّتهم على اللّه تعالى، اللّهم أعذنا من الانعثار فی مثل هذا المهوى، و أجرنا من اتّباع ثوران الهوى.
كلمة جامعة:
و لنعم ما قاله الصاحب بن عبّاد ـ رضی اللّه عنه و أرضاه ـ حیث قال: ]شرح المقاصد 4: 261.[.
كیف یأمر بالإیمان ولم یرده، و ینهى عن الكفر و قد أراده، و یعاقب على الباطل و قدّره، و كیف یصرفه عن الإیمان ثمّ یقول: (أنّى تُصْرَفُونَ) ]غافر: 69.[ و یخلق فیهم ]الإفک ثمّ یقول: (أنّى یؤفكون) ]المائدة: 75.[ و أنشأفیهم[ الكفر ثمّ یقول: )كَیفَ تَكْفُرُونَ) ]البقرة: 28.[ و یخلق فیهم لبس الحق ثمّ یقول: )لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ( ]آل عمران: 71.[ و صدّ عنهم السبیل ثمّ یقول: (لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبیلِ اللّهِ) ]آل عمران: 99.[ و حال بینهم و بین الإیمان ثمّ قال: (وَ ماذا عَلَیهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللّهِ) ]نساء: 39.[ و ذهب بهم عن الرشد ثمّ قال: (فَأینَ تَذْهَبُونَ) ]التکویر: 26.[ وأضلّهم عن الدین حتّى أعرضوا ثمّ قال: (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضَین). ]المدّثر: 49.[.
و لنعم ما قال أبوالعلاء المعرّی:
زعم الجهول و مَن یقول بقوله
إنّ المعاصی من قضاء الخالق
إن كان حقّاً ما زعمت فَلِم قضى
حدّ الزناء و قطع كفّ السارق
فصل: فی نقل دلائل الأشاعره
القائلین بأنّه ما مِن فعلٍ إلّا و هو بقضاء اللّه و قدره، خیراً كان أو شرّاً.
و لهم أیضاً دلائل نقلیة و عقلیة.
أمّا النقلیة: فهی أخبار الآحاد، و عمومات بعض الآی، وضعفهما ظاهر.
و أمّا العقلیة، فعشرة:
الدلیل الأوّل: إنّ العبد لو كان فاعلاً لم یخل إمّا أن یكون متمكّناً من الترک أو لا، لا جائز أن یكون الثانی، فإنّه یستلزم الجبر الّذی هو اتّفاقی البطلان، فتعین الأوّل.
فنقول: ترجیح الفعل على الترک لایخلو إمّا أن یكون بلا مرجّحٍ، أو بمرجّحٍ، فالأوّل باطل، لأنّ ترجیح أحد المتساویین على الآخر بلا مرجّحٍ باطل، فتعین الثانی.
فنقول: لایخلو إمّا أن یكون المرجّح بحیث یجب معه الفعل أو لا، فعلى الأوّل یلزم الجبر أیضاً، و على الثانی فلابدّ من مرجّحٍ آخر، و هكذا إلى غیر النهایه، و هو باطل، فیكون الملزومـ و هو كون العبد فاعلاًـ باطلاً، و هو المطلوب.
و هو مردود بوجوه:
الأوّل: النقض بفعل اللّه القدیر تعالى، فإنّ الدلیل جارٍ فیه، فلوتمّ لزم أن لا یكون للّه فعل، و هو باطل إجماعاً.
قیل فی جوابة:
إنّ الفرق بین قدرة العبد و قدرة اللّه سبحانه غیر قلیل، فإنّ القدرة الحادثة لا یكون من شأنها أن یرجّح طرفاً إلّا بمرجّحٍ آخر، فیلزم المذكور، و أمّا قدرة اللّه تعالى فهی قدیمة ترجّح أحد المتساویین بنفسها لا بمرجّحٍ آخر لیلزم التسلسل.
أقول: إنّ هذا الفرق لا یجدی فی هذا المقام إلّا تستّراً لدى العوام، و تكثیراً للملام، فإنّه إذا كان قدرة اللّه تعالى مرجّحة فلایخلو إمّا أن تكون موجبه أو لا، فعلى الأوّل یلزم الجبر، و على الثانی فیجوز الترک، و یحتاج الفعل إلى مرجّحٍ، و یتسلسل كما قیل فی قدرة العبد بلا فرقٍ.
الثانی: إنّ ما لهج به هؤلاء … فی دلیلهم هذا من أنّه إنّ كان المرجّح موجباً لزم الجبر، وهمٌ منشأه كنیفة الجهل بمعنى الجبر، فإنّ الجبر إنّما یلزم أن لو كان الإیجاب من غیر العبد، و أمّا إذا كان من العبد فلا، فإنّ الكلّ متّفقون على أنّ إیجاب الإرادة محقّق للاختیار، لا مناقض له. صرّح بذلک جمع من محقّقیهم، منهم الفاضل التفتازانی.
الثالث: إنّ ما ذكروه من أنّه لو لم یوجب المرجّح لزم الترجیح بلا مرجّح أو تسلسل الترجیحات إلى ما لانهایة له، وهمٌ؛ إذ لایجوز أن یكون الترجیح منتهیاً إلى حدّ الأولویة، و هو كافٍ فی دفع ترجیح أحد المتساویین أو المرجوح.
قیل فی دفعه: إنّه إذا صار أحد الطرفین أولى صار واجباً، فإنّه یجب وقوع الاُولى، فعاد ما قلناه من أنّ المرجّح موجب البتّة.
أقول: الآن تنفّس صبح الحقّ من دجى الباطل، فإنّ هذا الوجوب الّذی ذكره لو سلّم فقد لزم الأولویة فی الخارج اتّفاقاً كما لزم الزنجیة السواد، فكما لایقال: إنّ الزنجیة هی الموجبة للسواد كذلک لایقال: إنّ المرجّح الّذی یجعل أحد الطرفین أولى هو الموجب لوقوع ذلک الطرف، و الكلام إنّما هو فی الوجوب الّذی یلزم من ترجیح المرجّح.
و قال بعض مَن قارب عصرنا فی الجواب:
إنّ الوجوب الّذی ذكره هو الوجوب اللاحق للممكن الموجود حین هو موجود، و الكلام فی الوجوب السابق، انتهى.
و قد عرفت ما رامه الخصم، و حینئذٍ لا یتمّ ما ذكره هذا الفاضل، بل لا ینتظم معه فی سلک المناظره، فثق بما ذكرنا فی الجواب، و علیه عوّل، فإنّه السدید الّذی یظهر لكلّ متأمّل.
أقول: إنّ ما ادّعوه من استحالة الترجیح بلا مرجّحٍ ممنوع، فإنّا نرى الجائع یختار أی الرغیفین المتساویین شاء بلا مرجّح، و كذا العطشان أحد الإنائین، و الهارب من السبع إحدى الطریقین، على ما صرّح به محقّقوا الأشاعرة، متقدّموهم و متأخّروهم.
قیل فی الجواب:
إنّا لو سلّمنا أنّ قدرة العبد و اختیاره یصلح لأن یرجّح أحد المتساویین بلا مرجّح فنقول: هذا الاختیار لا یخلو إمّا أن یكون باختیار العبد أو بغیره، فعلى الثانی یلزم الجبر، و على الأوّل یلزم التسلسل.
أقول: لا یخفى ما فیه من الخلط و الخبط، فإنّ الجبر إنّما یلزم إذا كان الفعل بغیر اختیاره، و أمّا خلق الاختیار بلااختیارٍ منه فلا یوجب جبراً، و هو ظاهر لمن لم یقفل قلبه بأقفال الضلالة و العمایة، و لم یعلف فؤاده بأعلفة اللجاجة و الغوایة.
الرابع: إنّا نسلّم لزوم التسلسل و نمنع بطلانه، فإنّه إنّما یكون باطلاً لوتعین كون المرجّح وجودیاً، و هو ممنوع، لِمَ لا یجوز أن یكون عدمیاً و التسلسل فی العدمیات غیر ممتنع.
قال صاحب «التوضیح» بعد نقل هذا الدلیل:
اعلم أنّ كثیراً من العلماء اعتقدوا هذا الدلیل یقینیاً، و البعض الّذی لا یعتقدونه یقینیاً لم یوردوا على مقدّماته منعاً یمكن أن یقال: إنّه شیء، و قد خفی على كلا الفریقین مواقع الغلط فیه، و أنا أسمعک ما سنح بخاطری، و هذا مبنی على أربع مقدّمات:
المقدّمة الاُولى: إنّ الفعل یراد به المعنى الّذی وضع المصدر بازائه، و یمكن أن یراد به المعنى الحاصل بالمصدر، فإنّه إذا تحرّک زید فقد قام الحركة بزیدٍ، فإن اُرید بالحركة الحالة الّتی تكون للمتحّرک فی أی جزءٍ یفرض من أجزاء المسافة فهی المعنى الثانی، و إن أرید بها إیقاع تلک الحالة فهو المعنى الأوّل، و المعنى الثانی موجود فی الخارج، أمّا الأوّل فأمر یعتبره العقل، و لا وجود له فی الخارج، إذ لو كان لكان له موقع.
ثمّ إیقاع ذلک الایقاع یكون واقعاً إلى ما لا یتناهی، فیلزم التسلسل فی طرف المبدأ فی الاُمور الواقعة فی الخارج، و هو محال، و لأنّه یلزم أنّه إذا أوقع الفاعل شیئاً واحداً فقد أوجد اُموراً غیر متناهیة، و هذا بدیهی الاستحالة، على أنّ كون الإیقاع أمراً غیر موجود فی الخارج أظهر على مذهب الأشعرى، فإنّ التكوین عنده أمر غیر موجود فی الخارج.
المقدّمة الثانیة: كلّ ممكنٍ فلا بدّ أن یتوقّف وجوده على موجدٍ و إلّا یكون واجباً بالذات.
ثمّ إن لم یوجد جملة ما یتوقّف علیه وجوده یمتنع وجوده و لا یمكن، إذ كلّ ممكن لا یلزم من فرض وقوعه محال و هنا یلزم، لأنّه إن وقع بدون تلک الجملة لم تكن هی جملة ما یتوقّف علیه، و المفروض خلافه.
و إن وجد تلک الجملة یجب وجوده عندها و إلّا أمكن عدمه، ففی حال العدم إن توقّف على شیء آخر لم یكن المفروض جملة، و إن لم یتوقّف على شیء آخر فوجوده مع الجملة تارةً و عدمه اُخرى رجحان مِن غیر مرجّحٍ، فهو محال.
فإن قیل: لانسلّم أنّه محال، بل الرجحان بلا مرجّحٍ بمعنى وجود الممكن من غیر أن یوجده شیء آخر محال، و لم یلزم هذا المعنى.
قلت: قد لزم هذا المعنى، لأنّه إن أمكن عدمه مع هذه الجملة یجب أن لا یلزم من فرض عدمه محال، لكنّه یلزم، لأنّه لا شکّ أنّه فی زمان عدمه لم یوجده شیء، ففی الزمان الّذی وجد إن وجد بإیجاد شیءٍ آخر إیاه یلزم ما سلّمتم استحالته.
فثبت أنّه لابدّ لوجود كلّ شیء ممكن من شیء یجب عنده وجود ذلک الممكن و لولاه یمتنع وجوده، و هذه القضیة متّفق علیها بین أهل السنّة و الحكماء، لكن أهل السنّة یقولون بها على وجهٍ لا یلزم منه الموجب بالذات، فإنّ وجود شیء یجب على تقدیر إیجاد اللّه تعالى إیاه، و یمتنع على تقدیر أن لا یوجده.
و اعلم أنّ ما زعموا أنّ كلّ موجودٍ ممكن محفوف بوجوبین سابقٍ و لاحقٍ باطل، لأنّه إن اُرید السبق الزمانی فمحال، لأنّه یلزم وجوب وجود الشیء حال عدمه، و إن اُرید سبق المحتاج إلیه فكذا، لأنّه مع العلّة الناقصة لا یجب، و مع التامّة لا یكون الوجوب منها، ضرورة أنّ الوجوب معلولها، فالوجوب لیس إلّا مقارناً بحیث لا یحتاج الوجود إلیه، فكلّ منهما أثر المؤثرّ التامّ.
ثمّ العقل قد یعتبر أحد المضافین مؤخّراً من حیث أنّه یحتاج إلى الآخر فی التعقّل، و مقدّماً من حیث أنّ الآخر یحتاج إلیه، و أیضاً مقارناً مع أنّه فی الحقیقة واحد.
المقدّمة الثالثة: لمّا ثبت أنّه لابّد لوجود كلّ ممكنٍ من شیء یجب عنده وجود ذلک الممكن، یلزم أنّه لابدّ أن یدخل فی جملة ما یجب عنده وجود الحادث اُمور لا موجودة و لا معدومة كالامور الإضافیة، و هو القول بالحال، لأنّ جمله ما یجب عنده وجود زیدٍ الحادث لا یكون تمامها قدیما، لأنّ القدیم إن أوجبه فی وقتٍ معین فیتوقف على حصول ذلک الوقت، فلا یكون تمام ما یجب عنده قدیماً، و إن أوجبه لافی وقتٍ معینٍ، فحدوثه فی وقتٍ معینٍ رجحان من غیر مرجّح، فتكون بعضها حادثة، فحینئذٍ لولم تدخل فی تلک الجملة اُمور لا موجودة و لا معدومة فهی:
إمّا موجودات محضة، و هی مستندة إلى الواجب، فیلزم إمّا قدم الحادث أو انتفاء الواجب.
و إمّا معدومات محضة، و هی لا تصلح علّة للموجود، و أیضاً وجود زیدٍ متوقّف على أجزائه الموجودة.
و إمّا موجوات مع معدومات، و هذا باطل أیضاً، لأنّ هذه القضیة ثابتة، و هی أنّه كلّما وجد جمیع الموجودات الّتی یفتقر إلیها زید یوجد زید، من غیر توقّفٍ على عدم عمروٍ، إذ لو توقّف على عدم عمرو مثلاً توقّف على عدمه الّذی بعد الوجود، لأنّ العدم الّذی قبل الوجود قدیم، فیلزم قدم زیدٍ الحادث.
ثمّ عدم عمروٍ الّذی بعد الوجود لا یمكن إلّا بزوال جزءٍ من العلّة الموجبة لوجود عمروٍ أو بقائه، و ذلک الجزء:
إمّا أن یكون موجوداً محضاً فیصیر معدوماً، و ذا لا یمكن، لأنّه لا یصیر معدوماً إلّا بعدم جزءٍ من علّة وجوده أو بقائه، و هلمّ جرّاً إلى الواجب، فلا یمكن عدم عمروٍ، و حینئذٍ لا یمكن وجود زیدٍ، لتوقّفه على عدم عمرو، و كلامنا فی زید الموجود.
و إمّا أن یكون لزوال العدم مدخل فی زوال ذلک الجزء، و زوال العدم هو الوجود، و نفرضه وجود بكرٍ، فعدم عمرو موقوف على وجود بكرٍ، و قد فرضنا وجود زیدٍ متوقّفاً على عدم عمروٍ، فیلزم توقّف وجود زیدٍ على وجود بكرٍ على تقدیر وجود جمیع الموجودات الّتی یفتقر إلیها زید، هذا خلف.
و إذا ثبت القضیة المذكورة یلزم أنّه كلّما عدم زید لا یكون عدمه إلّا بعدم شیء من تلک الموجودات، ثمّ هكذا إلى الواجب، فثبت على تقدیر افتقار وجود كلّ ممكنٍ ألى شیء یجب ذلک الممكن عنده دخول ما لیس بموجودٍ و لا معدومٍ فی جملة ما یجب عنده وجود الحادث.
فإن قیل: لا یثبت هذا الأمر على ذلک التقدیر، لأنّه یراد بالمعدوم نقیض الموجود، فالأمر الّذی یسمّونه حالاً داخل فی أحد النقیضین.
قلت: هذا التأویل صحیح إلّا فی قوله: و ذلک الجزء إمّا أن یكون موجوداً محضاً … فإنّ الانحصار فیما ذكر من الأمرین ممنوع، فثبت توقّف الموجودات الحادثة على اُمورٍ لا موجودة و لا معدومة، و لا یمكن استناد تلک الاُمور إلى الواجب بطریق الإیجاب، لأنّه یلزم حینئذٍ المحالات المذكورة، من قدم الحادث، و انتفاء الواجب، و لا یلزم من عدم استناد الاُمور المذكورة استغناؤها عن الواجب، إذ لا شکّ أنّها مفتقرة إلى الواجب بلا واسطة، أو بواسطة الموجودات المستندة إلیه لكن لاعلى سبیل الوجوب. و حینئذٍ إمّا أن یجب بالتزام التسلسل فیها، و هذا باطل، أو تكون إضافة الإضافة عین الاُولى، و إمّا أن لا یجب، والظاهر أنّ الحقّ هذا، فإنّ إیقاع الحركة غیر واجب، و مع ذلک أوقعها الفاعل ترجیحاً لأحد المتساویین، ثمّ الحركة ـ أی الحالة المذكورة ـ تجب على تقدیر الإیقاع، إذ لو لم تجب فوجودها رجحان بلا مرجّحٍ، و لایلزم فی الإیقاع الرجحان بلا مرجّحٍ أی الوجود بلا موجدٍ، إذ لا وجود للإیقاع.
و اعلم أنّ إثبات تلک الاُمور على تقدیر أنّ كلّ ممكنٍ یحتاج فی وجوده إلى مؤثّرٍ یوجبه، مخلّص عن القول بالموجب بالذات، و موجب للفاعل بالاختیار، و لولا تلک الاُمور لا یمكن نفی الموجب بالذات إلّا بالتزام وجود بعض الموجودات من غیر وجوب، و یلزم من هذا وجود الممكن بلا موجدٍ، و هو محال كما مرّ فی المقدّمة الثانیة.
المقدّمة الرابعة: إنّ الرجحان بلا مرجّحٍ باطل، و كذا الترجیح من غیر مرجّحٍ، لكن ترجیح أحد المتساویین أو المرجوح واقع، لأنّه إمّا أن لاترجیح أصلاً أو یكون الراجح، أو المساوی.
الأوّل باطل، لأنّه لولا الترجیح لا یوجد ممكن أصلاً، و كذا ترجیح الراجح باطل، لأنّ الممكن لا یكون راجحاً بالذات بل بالغیر، فترجیح الراجح یؤدّی إلى إثبات الثابت، أو احتیاج كلّ ترجیحٍ إلى ترجیحٍ قبله الى غیر النهایة، فالترجیح لایكون إلّا للمساوی أو المرجوح.
و لأنّ كلّ ممكنٍ معدوم عدمه راجح على وجوده فی نفس الأمر و بالنسبة إلى علّة العدم، و مساوٍ له بالنسبة إلى ذات الممكن، فإیجاده ترجیح المرجوح أو المساوی.
على أنّ الإرادة صفة شأنها أن یرجّح الفاعل بها أحد المتساویین أو المرجوح على الآخر، فعلم أنّ الإرادة لا تعلّل، كما أنّ الإیجاب بالذات لا یعلّل، لأنّ ذات الإرادة تقتضی ما ذكرنا، و إنّما یمتنع رجحان المرجوح أو المساوی ماداما كذلک، فإذا رجّح الفاعل لم یبقیا كذلک.
و اعلم أنّ المتكلّمین أوردوا لتجویز ترجیح المختار أحدَ المتساویین المثال المشهور، و هو الهارب من السَبُع إذا رأى طریقین متساویین، فقال الحكماء: القضیة البدیهیة الّتی لولاها لانسدّ باب العلم بالصانع ـ و هی: إنّ الترجیح بلا مرجّحٍ ]باطل[ ـ لا یبطل بإیراد مثالٍ لا یدلّ على عدم المرجّح، بل غایته عدم العلم بالمرجّح.
فأقول: القضیة الّتی تستعمل فی إثبات العلم بالصانع هی أنّ رجحان أحد طرفی الممكن بلا مرجّحٍ محال بمعنى أنّ وجوده بلا موجدٍ محال، مع أنّه یمكن إثبات هذا المطلوب مع الغنیة عن هذه القضیة بأن نقول: الموجود إمّا لا یحتاج فی وجوده إلى غیره أو یحتاج، و لابدّ من الأوّل، قطعاً للتسلسل، ثمّ على تقدیر تسلیم تلک القضیة و بداهتها الفاعل هو المرجّح، فلا یلزم وجود الممكن بلا موجدٍ، و أیضاً إنّما أوردوا المثال سنداً للمنع، فعلیكم البرهان على الرجحان فی المثال المذكور.
على أنّا نقول: إن وجب المرجّح فی المثال المذكور فإمّا أن یجب بحسب نفس الأمر، و هذا باطل، لأنّ الاعتقاد الّذی لا یطابق لما فی نفس الأمر كما فی الأفعال الاختیاریة، و إمّا أن یجب بحسب اعتقاد الفاعل، و ذا باطل أیضاً، إذ یفعل أفعالاً مع عدم اعتقاد الرجحان كما فی الهارب، بل مع اعتقاد المرجوحیة، و مَن أنكر هذا فقد أنكر الوجدانیات، فبطل قولهم: إنّ غایته عدم العلم بالرجحان، فإنّ عدم علم الفاعل بالرجحان كافٍ فی هذا الفرض.
فعلم أنّ المراد بقولنا: «إنّ الرجحان بلا مرجّحٍ باطل» هو أنّ وجود الممكن بلا موجدٍ محال، سواء كان الموجد موجباً أو لا، فالرجحان هو الوجود فقط لا أنّه یصیر راجحاً قبل الوجود.
إذا عرفت هذه المقدّمات الأربعة فقوله: «یجب وجود الفعل»:
إن اُرید بالفعل الحالة الّتی تكون للمتحرّک فی أی جزءٍ من أجزاء المسافة، فعلى تقدیر القول بوجود بعض الأشیاء بلاوجوبٍ نمنع وجوب تلک الحالة، فلا یلزم الجبر، على أنّا قد أبطلنا هذا التقدیر، لكن إثبات المطلوب على هذا التقدیر أیضاً أقرب من الاحتیاط.
و على تقدیر امتناع وجود الأشیاء بلا وجوبٍ الجبر منتفٍ أیضاً، إمّا بالقول بأنّ اختیار الاختیار عین الأوّل، فلا یلزم التسلسل على تقدیر كون المرجّح من العبد، و إمّا بأنّه یلزم حینئذٍ توقّف الموجود على ما لیس بموجودٍ و لا معدوم، فالحال المذكورة تتوقّف على أمرٍ لا موجود و لا معدوم كالإیقاع مثلاً، ثمّ هو إمّا أن یجب بطریق التسلسل، أو بأنّ إیقاع الإیقاع عین الأوّل، و إمّا أن لا یجب لكنّ الفاعل یرجّح أحد المتساویین.
و إن أراد بالفعل الإیقاع فتعین ما قلنا فی الإیقاع.
هذه عبارة «التوضیح» بعینها، نقلتها بطولها مع أنّ بعضها خارج عن المقصود، لئلّا اُظنّ فی النقل خائناً، أو اُوهم فی الاخبار مائناً، و إفادةً لفوائد اُخر و إن زادت عن أصل المرام.
أقول: أمّا المقدّمة الاُولى: فقد قدح فیها صاحب «التلویح» بوجهین:
الأوّل: إنّ التسلسل فی الإیقاعات إنّما یلزم لو لم تنته إلى إیقاعٍ قدیم لا یحتاج إلى إیقاعٍ آخر، و هو ممنوع.
و الثانی: إنّه إنّما یلزم ما ذكره من أنّه إذا أوقع الفاعل شیئاً واحداً فقد أوجد اُموراً غیر متناهیة، أن لو كان موقع الإیقاع هو ذلک الفاعل دون غیره، و هو أیضاً ممنوع، لجواز أن یوقع إیقاعه فاعلٌ آخر.
و أنت خبیر باندفاع الوجهین:
أمّا الأوّل: فلأنّ المراد بالإیقاع القدیم الّذی فرضه منتهى سلسلة الإیقاعات لایخلو إمّا أن یكون الإیقاع القدیم بالذات أی الواجب لذاته، أو الإیقاع القدیم بالزمان كما هو المتبادر إلى الذهن عند إطلاق المتكلّمین.
فإن كان الأوّل ففساده ظاهر، إذ لا واجب بالذات إلّا اللّه، فكیف یكون الإیقاع واجباً بالذات؟ و لا یمكن أن یقال: الإیقاع صفة للّه تعالى حقیقیة، و الصفات على مذهب أهل السنّة لیست عین الواجب و لا غیره، و تعدّد الواجب إنّما یستحیل إذا كان المتعدّدان متغایرین، و أمّا إذا كان أحدهما بحیث لا یكون غیراً للاخر فلا ـ على ما قرّره فی «شرح العقاید» و «شرح المقاصد» ]راجع: شرح المقاصد 4: 39.[ ـ لظهور أنّ الإیقاع لیس صفة حقیقیة للشیء، لا سیما على مذهب الأشعری الّذی لا یقول بالتكوین.
و إن كان المراد هو الثانی لم یجد نفعاً، لأنّ القدیم بالزمان لا یكون مستغنیاً عن الموقع إلّا إذا كان واجباً بالذات.
ثمّ إنّک إذا تأمّلت وجدت وجهاً آخر لفساد ما ذكره، و هو أنّ هذه الإیقاعات الغیر المتناهیة یجب أن یكون وجودها فی زمانٍ واحدٍ، فإنّ الإیقاع لا یوجد إلّا مع الموقع، و الموقع هو الإیقاع، فهو أیضاً لا یوجد إلّا مع موقعه و هكذا، و إذا كان كذلک فلو كانت النهایة إلى إیقاعٍ قدیم لزم أن یكون هذا الإیقاع الحادث المفروض أیضاً قدیماً، و هذا ظاهر لدى كلّ فطنٍ لم تغیر فطنتَه الفتنُ، و لم یولّ دبره عن سدید السنن.
و أمّا الثانی: فلأنّه لو كان موقع الإیقاع فاعلاً آخر لزم أن لا یكون الإیقاع اختیاریاً، و هو خلاف الفرض، فیكون اتّصاف الفاعل بالإیقاع باختیاره، و ذلک لا یكون إلّا بأن یوقعه بالاختیار، فیلزم ما ذكره المستدّل.
و الحقّ أنّه لا یرد على هذه المقدّمة إلّا أنّ التمثیل بالحركة لیس على ما ینبغی، فإنّه لیس فعلاً، و هذه مناقشة فی المثال لا اعتداد بها.
و أمّا المقدّمة الثانیة: فاعترض علیها صاحب «التلویح»:
أمّا أوّلاً: فبأنّ قوله: «إن وجد بإیجاد شیء آخر إیاه یكون الإیجاد من جملة ما یتوقّف علیه» إنّما یتمّ أن لو كان الإیجاد ممّا یتوقّف علیه وجود الممكن، و الحقّ أنّه اعتبار عقلی یحصل فی الذهن من اعتبار إضافة العلّة إلى المعلول، فهو فی الذهن متأخّر عنهما، و فی الخارج غیر متحقّق أصلاً، فكان الوجه أن یقال ما هو المشهور من أنّه إن أمكن عدم الممكن عند تحقّق جمیع ما یتوقّف علیه وجوده كان وجوده تارةً و عدمه اُخرى تخصیصاً بلا مخصّص، و ترجیحاً بلا مرجّح، لأنّ نسبته إلى جمیع الأوقات على السویة، و هو ضروری البطلان.
و أنت خبیر بأنّ هذا الاعتراض لیس إلّا اعتراضاً للملام، و انتصاباً لأنواع من الكلام.
أمّا أوّلاً: فلأنّ الإیجاد لیس إلّا نسبة بین ذاتی الموجد و الموجد من حیث ذاتیهما، و التأخّر عن الذات لا ینافی التقدّم على الوجود على نظیر تأخّر العوارض المشخّصة عن ذات المشخّص، و تقدّمها على وجودها، على ما قرّرناه فی رسالة الشرطیة.
و أمّا ثانیاً: فلأنّه لایلزم أن یكون ما یتوقّف علیه موجوداً فی الخارج، بل یكفی كونه فی الخارج، أی یكون الخارج ظرفاً لنفسه، والإیجاد كذلک، فإنّه و إن لم یكن موجوداً متحقّقاً فی الخارج إلّا أنّه مظروف للخارج البتّة، كما أنّ قیام زید و إن لم یكن موجوداً فی الخارج لم یدخل شیء من السلوب و الإضافات فی جملة ما یتوقّف علیه الشیء، فلا یدخل فیها عدم المانع، و هو ضروری البطلان.
و أمّا ثالثاً: فلأنّه لا یوجد شیء شیئاً إلّا و یتحقّق قبل ذلک بینهما خصوصیة تخصّص الموجد بالموجدیة، و إلّا فنسبة الموجد إلى الجمیع على السواء، و كذا نسبة الموجد، فلعلّ مراده بالإیجاد هو هذه الحالة و الخصوصیة، فلا یكون لما أورده وجه.
و أمّا الدلیل المشهور الّذی ذكره: فهو إنّما یتمّ على المذهب الحقّ، لاعلى مذهب الأشعری و من یحذو حذوه من القائلین بجواز الترجیح من غیر مرجّح، و ذلک ظاهر.
و أمّا ثانیاً: فبأنّه كیفى أن یحصل عند حصول جمیع ما یتوقّف علیه أولویة وجود الحادث، و لا یلزم أن یصیر واجباً، لأنّه یكفی فی الترجیح.
و أجاب عنه نفسه بأنّه لا یخلو إمّا أن یمكن العدم مع تلک الأولویة أو لا، فإن أمكن فوقوعه إن كان لا بسببٍ لزم رجحان المرجوح، و إن كان بسببٍ كان من جملة ما یتوقّف علیه الوجود عدم ذلک السبب، فلا یكون المفروض جملة ما یتوقّف علیه الوجود.
و أمّا ثالثاً: فإنّ توجیه اعتراضه على الفلاسفة فی قولهم: «إنّ الممكن محفوف بوجوبین، سابق و لاحق» لیس إلّا أنّه لا یخلو إمّا أن یكون المراد بالوجب السابق، السابق بالزمان أو بالذات.
فإن كان الأوّل یلزم تحقّق الوجوب قبل وجود الممكن، و هو محال، فإنّه نسبة بین الممكن و الوجود.
و إن كان الثانی فلا یخلو إمّا أن یكون المراد هو التقدّم بالذات فی العقل، أو فی الخارج و نفس الأمر.
فإن كان المراد هو الأوّل، لزم أن یكون تعقّل الممكن موقوفاً على تعقّل وجوبه، و لیس كذلک، بل الأمر بالعكس.
و إن كان المراد هو الثانی، فلا یخلو إمّا أن یكون المراد بالوجوب الوجوب عند تحقّق العلّة الناقصة، أو عند تمام العلّة التامّة.
فعلى الأوّل لاوجوب أصلاً، فضلاً عن أن یكون ممّا یتوقّف علیه الممكن.
و على الثانی یلزم أن یتوقّف على نفسه، فإنّه یكون حینئذٍ من جملة ما یتوقّف علیه، فیكون داخلاً فی العلّة التامّة، مع أنّه قد قرّر أنّه معلول للعلّة التامّة، فإذا وجدت العلّة التامّة بجمیع أجزائها كان المعلول واجب الوجود، و هو غیر تامٍ، فإنّه یجوز أن یكون مرادهم بالسبق الاحتیاج فی نفس الأمر بمعنى أنّ العقل یحكم عند ملاحظة هذه الاُمور بأنّ الممكن ما لم یجب لم یوجدـ لما مرّـ فالوجوب أیضاً ممّا یحتاج إلیه وجود الممكن، لكنّهم حین قالوا: «یجب وجود الممكن عند تحقّق العلّة التامّة» أرادوا بها جمیع ما یتوقّف علیه الممكن سوى الوجوب، بناءً على أنّه اعتبار عقلی هو تأكّد الوجود حتّى كأنّه هو، فلم یجعلوه من أجزاء العلّة التامّة، و لو سلّم فنقول: إنّ المراد بالوجوب، الوجوب عند تحقّق العلّة الناقصة، أی جمیع ما یحتاج إلیه الممكن غیر الوجوب.
قوله: لا وجوب لدى وجود العلّة الناقصة.
قلنا: لا یصحّ سلباً كلیاً، فإنّ من العلل الناقصة ما یحصل عنده الوجوب، و هو الجزء الأخیر من العلّة التامّة.
أقول: و أیضاً یجوز أن یكون المراد بالسبق، السبق بالطبع، فإنّ الوجوب علّة معدّة، فیكون مقدّماً بالطبع على الممكن.
و أمّا رابعاً: فلأنّ حاصل قوله: ثمّ العقل قد یعتبر أحد المضافین … أنّ الوجوب و الوجود متضایفان، و هما معلولان لعلّةٍ واحدة، فلها ثلاثة اعتبارات: تقدّم الوجوب على الوجود، و بالعكس، و المقارنة.
أمّا تقدّم أحدهما على الآخر، فبالنظر إلى أنّ من المحال أن یوجد أحد المتضایفین بدون الآخر، مثلاً اُخوّة زید لعمروٍ یستحیل أن تتحقّق إلّا إذا تحقّق اُخوّة عمروٍ له، و كذا بالعكس. و هذا الّذی یقال له الدور المعی، و هو جائز.
و أمّا المقارنة، فبالنظر إلى أنّهما معلولان لعلّةٍ واحدة، و إذا كان كذلک فلا یمكن الاقتصار على أحد الاعتبارات و الإعراض عن الباقیین.
و فیه نظر من وجوه:
الأوّل: إنّا لانسلّم أنّ الوجوب و الوجود معلولا علّة واحدة، فإنّ من جملة ما یتوقّف علیه الوجود ما لایتوقّف علیه الوجوب، و هو نفس الوجوب.
الثانی: إنّه لو كان للوجود أیضاً تقدّم على الوجوب من وجهٍ لكان جائزاً أن یقال: وجد فوجب، كما یجوز أن یقال: وجب فوجد، و الثانی باطل ضرورةً.
الثالث: إنّ توقّف كلّ منهما على الآخر على سبیل المعیة لا یقتضی سبق كلّ منهما على الآخر كما ذكره، ألا ترى إلى وجود النهار و إضاءة العالم؟ فإنّهما متوقّف كلّ منهما على الآخر توقّفاً معیاً، و لا سبق لشیء منهما على الآخر.
الرابع: إنّا لانسلّـم أنّ الوجـوب و الوجـود متضایفـان، و إن كانـا معلولی علّـةٍ واحـدة، على مـا توهّمه.
أقول: و أیضاً احتیاج كلّ من المتضایفین إلى الآخر ممنوع، لا سیما إذا ادّعى أنّه فی العقل، كما صرّح به، فإنّه حینئذٍ یلزم أن یؤخذ كلٍّ فی تعریف كلّ، فیلزم الدور المحال.
و منشأ التوهّم هو التكافؤ فی الخارج، و كون تعقّل كلٍّ بالقیاس إلى الآخر، و لا شکّ لذی أدنى مسكةٍ أنّه لا یوجب شیء منهما شیئاً من التوقّفین، لا توقّف أحدهما على الآخر فی الخارج، و لا فی العقل، غایة الأمر أنّه لا ینفکّ شیء منهما عن الآخر، و لا تعقّل كلّ عن تعقّل الآخر، و عدم الانفكاک لا یستلزم التوقّف و العلّیة، و قد صرّح الشیخ الرئیس فی «الشفاء» بأنّه لو كان تعقّل كلٍّ موقوفاً على تعقّل الآخر لوجب أن یؤخذ كلّ فی تعریف الآخر، فیلزم الدور المحال.
نعم، قد یكون أحدهما موقوفاً على الآخر فی الإضافة المشهوریة، و أمّا الإضافة الحقیقیة ففیه تردّد، الأشبه لا.
و أمّا المقدّمة الثالثة: فمُصابة بأقداحٍ من القدح.
أمّا أوّلا: فلأنّ ما ذكره كلّه مبنی على الغفلة عن العلّة المعدّة، و أنّه یجوز أن تكون هناک حركة قدیمة كلّ جزء منها معدّ للاحقه، و تكون هی المعدّة للحوادث، كما تقول بذلک الفلاسفة، و لا یحتاج انعدام جزء الحركة إلى انعدام علّته، فإنّ ذات الحركة تقتضی التجدّد و الانقضاء، فما هو علّة الحركة علّة لجمیع أجزاءها من حیث هی متجدّدة منقضیة، لامتناع ثباتها و استقرارها.
و أمّا ما قاله صاحب «التلویح» فی دفع هذا ـ من أنّا ننقل الكلام إلى الأین أو الوضع الّذی ینعدم بالحركة فإنّه لا یكون إلّا بعدم علّته ـ فهو فی غایة السقوط، لأنّ مَن یقول: إنّ الحركة السابقة معدّ للاحق، یقول بأنّ الأین السابق أو الوضع السابق معدّة للاحقه، و لا علّیة فی ذلک، و كما أنّ علّة الحركة علّة لها بجمیع أجزاءها متجدّدة، كذلک علّة الأین أو الوضع علّة له بجمیع أفراده متجدّدة منقضیة، فلا یكون عدم فردٍ منها مستنداً إلى عدم علّته لیلزم ما ألزمه.
إذا تمهّد هذه المقدّمة الّتی حاد عنها ]أی: مال عنها.[ صاحب «التوضیح» فنقول: أی شیء أردت بجملة «ما یجب عنده وجود الممكن»؟ إن أدخلت فی الجملة المعدّات أیضاً أخترنا حدوثها، بمعنى حدوث جزءٍ من أجزائها و هو المعدّ، و وجود جمیع أجزاءها.
قولک: هی مستندة إلى الواجب، فیلزم إمّا قدم الحادث، أو انتفاء الواجب.
قلنا: أی شیء ترید بالاستناد إلى الواجب؟ إن أردت به الاستناد إلى إیجاده فممنوع، ولكن یبقی الاستناد الاستعدادی – كما مرّ – فلا یلزم قدم الحادث، و لا انتفاء الواجب، و إن أردت به الاستناد من كلّ وجهٍ فهو ممنوع.
و إذا بطلت هذه المقدّمة بطل قوله: لو توقّف على عدم عمروٍ مثلاً توقّف على عدمه الّذی بعد الوجود، لأنّ العدم الّذی قبل الوجود قدیم، فیلزم قدم زیدٍ الحادث، فإنّه إنّما یلزم قدم زیدٍ على هذا التقدیر أن لو كانت جمیع الموجودات الموقوف علیها قدیمة، و قد عرفت خلاف ذلک.
قال بعض المعاصرین بعد نقل ما ذكرنا من كون الزمان معدّاً و شرطاً لحدوث الحوادث، و نفس الزمان لا یفتقر فی تقضّیه و تجدّده إلى عدم جزءٍ من علّته التامّة:
لایقال: هذا الزمان أو تقضّیه الشریک للعلّة إن كان موجوداً فی نفس الأمر من حیث أنّه شریک للعلّة إمّا فی الخارج أو فی الذهن فیلزم انحصار ما لا یتناهى فی نفس الأمر بین حاصرین، لأنّ بین كلّ حدّین من الزمان حدوداً غیر متناهیة، و یوجد فی كلّ حدٍّ تقضّى ما قبله، و القول بتحدّد بعض الحدود دون بعضٍ تحكّم، و إن كان معدوماً فی نفس الأمر كان شركته للعلّة ممتنعاً.
لأنّا نجیب عنه: أمّا أوّلاً: فبأن یقال على تقدیر حدوث الزمان: لا شکّ أن بین مبدأ الزمان و الحدّ الّذی نحن فیه ـ و هو الآن الحاضر ـ حوادث متناهی، و إلّا لزم انحصار ما لایتناهى بین حاصرین، و لعلّ للزمان الّذی بینهما و للحركة الحافظة له مفاصل بالفعل بعدد المتفرّقات من هذه الحوادث فی حدوث أو انتفاء، و لم یثبت دلیل للفلاسفة على أنّ بین كلّ حركتین زمان سكون، و لا سیما فیما لم تكن إحداهما منعطفة عن الاُخرى، فلا نسلّم أنّ القول بوجود بعض الحدود دون بعضٍ تحكّم، نظیر ما ذهب إلیه ذیمقراطیس فی الأجسام فی أنفسهما، و ما ذهب إلیه ابن سینا فیها باعتبار المماسة و المحاذات الحاصلین بین الأجسام بالفعل، لا الواقعتین بین صرافة القوّة و محوضة الفعلیة، كما قرّر فی موضعه، و كذا الكلام على تقدیر قدم الزمان و الحركة الحافظة له نوعاً، إذ بین كلّ حدّین من الزمان الغیر المتناهی حوادث متناهیة. نعم، لا یتمّ ذلک على ما ذهب إلیه الفلاسفة من عدم المفاصل فی الزمان أصلاً، و قدمه مع الحافظ له شخصاً.
أقول: فیه وجوه من الجرح.
أمّا أوّلاً: فلأنّ قوله فی الجواب: «لا شکّ أن بین مبدأ الزمان و الحدّ الّذی نحن فیه و هو الآن الحاضر حوادث متناهیة» دعوى غیر مسموعٍ.
قوله: «و إلّا لزم انحصار ما لا یتناهى بین حاصرین» دلیل على سهوه و زلّته، فإنّ انحصار ما لایتناهى بین حاصرین إنّما یلزم أن لو كان طرف الزمان و الآن الحاضر حدّین لتلک الحوادث و إلّا فلم لا یجوز أن یحدث فی حدٍّ واحد من الزمان حوادث غیر متناهى، و ذلک لا یستلزم انحصارها بین حدّین، و هو ظاهر لكلّ مَن به أدنى مسكةٍ.
و أمّا ثانیاً: فلأنّ المطلوب إنّما یتمّ إذا كان كلّ حدٍّ من حدود الزمان و الحركة معدّاً لما بعده، و لا شکّ أنّه ینبغی أن یكون المعدّ و المعدّ متّصلین أحدهما بالآخر بلافاصلة، و لابدّ من قدم الزمان أیضاً لیتمّ المقصود على ما قرّرنا، فلا یفید ما ذكره، بل یلزم حدود غیر متناهیة متعاقبة، و یكون القول بوجود بعض الحدود دون بعضٍ تحكّماً محضاً بلا ریبة.
و أمّا ثالثاً: فلأنّ ما نسب إلى الفلاسفة من القول بعدم المفاصل فی الزمان أصلاً فریةٌ بلا مریة، فإنّهم یقرّون بحصول المفاصل بالغیر، كطلوع الشمس و غروبها، و إنّما یمنعون عن عدمها فی الزمان لذاته، صرّح بذلک الشیخ فی «الشفاء» حتّى مثّله و شبّهه بحصول المفاصل فی الجسم بالمحاذاة و المماسة أیضاً.
و تحقیق هذا المقام لا یسعه هذا المقام، و لنرجو من اللّه تعالى أن یوفّقنا لتحقیق أمر الزمان كما ینبغی.
و أمّا الجواب عن الشبهة فبأنّا نختار أوّلاً: أنّ هذا الزمان الّذی فرضناه معدّاً معدوم.
قوله: كان شركته للعلّة ممتنعاً.
قلنا: لانسلّم ذلک مطلقاً، فإنّ الشرط و المعدّ كثیراً مّا یكون معدوماً.
و ثانیاً: أنّه موجود، و لا یلزم ما ألزم، و ذلک لأنّ للزمان وجودین:
وجودٌ مجمل یشمل مجموع الكمّ المتّصل من أوّله إلى آخره، إن كان له أوّل و آخر، و حینئذٍ یكون متّصلاً محضاً لاجزء له بالفعل.
و الثانی: وجود تفصیلی متجزٍّ حسب فرض العقل أو الطرفیة، و هذا الوجود لا یمكن أن یكون لجمیع أجزائه الغیر المتناهیة لبعض منها متناهیة.
و نظیره الجسم البسیط المتّصل، فإنّ له أیضاً وجودین:
الأوّل: هو الوجود الاتّصالی الّذی لا یمكن أن یتطرّق إلیه تقدّم و تأخّر و قرب و بعد لبعضه، إذ لیس له أجزاء بالفعل، و كلّ ما ذكر فرع التجزّی الخارجّی.
و الثانی: هو الوجود التفصیلی الّذی تحصل به أجزاء خارجیة بالفعل بحسب الفرض، أو المماسّة، أو المحاذاة، و بهذا الاعتبار لا تحصل له أجزاء غیر متناهیة ضرورة، بل إنّما تحصل الأجزاء المتناهیة، و على هذا لا یلزم انحصار ما لایتناهى بین حاصرین، بل إنّما یلزم انحصار ما یتناهى.
و أعجب من ذلک ما تلجلج به متّصلاً بما نقلناه من قوله:
فإن قلت: یرد علیكم دون الفلاسفة أیضاً شیء أنّ الواجب مع معلولاته المتقدّمة على الحركة الحافظة للزمان إن كان علّة تامّة للحركة الاُولى من هذه الحركات، فلا یجوز انتفاؤه مع بقائه، و إلّا احتاج إلى شرطٍ آخر و هكذا، فیلزم التسلسل.
قلت: نختار الشقّ الثانی، و لا یلزم تسلسل، لأنّ شرطها عدم وصولها إلى حدٍّ هو مبدأ الحركة الثانیة، و لمّا كان وصولها إلى هذا الحدّ ممتنعاً بشرط وجودها، و قبل وجودها لم یحتج تحقّق ذلک الشرط إلى علّةٍ حین حدوثها، انتهى.
و إنّی اُنشدک باللّه أیها الأخ المنصف! هل فهمت من كلام هذا الحائد عن النهج القویم ما یهدیک إلى الجواب السلیم؟ ألم یعرف أنّ عدم الوصول أمر عدمی أزلی، فإن كان هو الشرط لزم الاعتراض بلا فتور، و اللّه أعلم بسرائر الاُمور.
ثمّ قال:
و أمّا ثانیاً: فبأن یقال: لانسلّم أنّ المعدوم فی نفس الأمر ممتنع أن یكون شریكاً للعلّة، إنما المحال أن یكون الشریک معدوماً لا یكون معلوماً أصلاً، و هذه الحدود الغیر المتناهیة معلوم كلّ واحد منها للواجب تعالى، و لا یلزم تعدّد فی ذاته تعالى، كما فی علمه بكلّ واحدٍ من الحوادث الغیر المتناهیة فی جانب المنتهى و الأبد قبل وجودها، انتهى.
و ساُشرِبُه قَدَحَین من القدح:
الأوّل: إنّه اختار الشقّ الثانی من شقّی تردید السائل، و هو كونه معدوماً فی الخارج و الذهن كلیهما، فإنّ الشقّ الأوّل كان وجوده فی الذهن أو الخارج ـ على ما ذكره نفسه ـ و إن كان خطأ، إذ لا مدخل للوجود الذهنی فی لزم ما ألزمه، و إذا كان المعدوم، المعدوم فی الخارج و الذهن كلیهما فكیف یصحّ قوله: إنّما المحال … أم هل هو إلّا تناقض؟
الثانی: إنّ العلم و عدمه لا مدخل له فی الصلوح للشركة فی العلّیة و عدمه- كما لا یخفى على كلّ ذی لبّ- بل إنّما الوجه ما ذكرنا آنفاً، فلیتذكّر.
و أمّا ثانیاً: فلأنّ قوله: و «زوال العدم هو الوجود» ممنوع، بل هما متلازمان، و لا شکّ أنّه لا یلزم من توقّف الشیء على أحد المتلازمین توقّفه على الآخر، فلا یلزم من توقّف وجود زیدٍ على عدم عمروٍ توقّفه على وجود بكرٍ لیلزم الخلف.
و أمّا ثالثاً: فلأنّ قضیة «كلّما وجد جمیع الموجودات الّتی یفتقر إلیها زید یوجد زید» لا ینافی توقّف وجود زیدٍ على عدم عمروٍ مثلاً، إذ یجوز أن تكون تلک الموجودات الّتی یتوقّف علیها وجود زیدٍ مستلزمة لعدم عمروٍ مثلاً، فتصدق القضیتان حینئذٍ بلا تدافعٍ.
و أمّا رابعاً: فلأنّ قوله: «و لولا تلک الاُمور لا یمكن نفی الموجب بالذات إلّا بالتزام وجود بعض الموجودات من غیر وجوب» ممنوع، إنّما یلزم الإیجاب أن لو لم تدخل فی جملة الموقوف علیه الاُمور الاعتباریة الّتی لا وجود لها أصلاً، فإنّه حینئذٍ لا یجب أن تنتهى سلسلة العلل إلى ذات الواجب لیلزم الإیجاب، لجواز التسلسل فی تلک الاُمور الاعتباریة.
و أمّا المقدّمة الرابعة: فلها أیضاً أسهم من أسهم النظر:
أمّا أوّلاً: فلأنّ قوله: «فترجیح الواجب یؤدّی إلى إثبات الثابت أو احتیاج كلّ ترجیحٍ إلى ترجیحٍ قبله إلى غیر النهایة» مجرّد دعوىً لا دلیل علیها، فإنّ اللازم إنّما هو احتیاج كلّ ترجیحٍ إلى رجحانٍ قبله، لاترجیح قبله، ولعلّ الرجحان لایفتقر عندنا معشر الحكماء إلى رجحانٍ قبله، بل یجوز رجحان المساوی أو المرجوح لعروض عارضٍ، فلا یتمّ مقصوده.
و أمّا ثانیاً: فلأنّه لم یفهم قول الحكماء، فإنّهم إنّما ذهبوا إلى أنّه لا یجوز ترجیح شیء إلّا بمرجّحٍ، و أقلّه الإرادة، لا أنّه لا یجوز إلّا ترجیح الراجح، و قد اعترف هؤلاء بأنّ الفاعل المختار ترجّح إرادته أحد المتساویین على الآخر، أو المرجوح على الراجح، فلا نزاع؛ و هذا النظر قد أشار إلیه صاحب «التلویح».
و أمّا ثالثاً: فلأنّه فهم من باب العلم بالصانع باب العلم بوجود الصانع، و لیس؛ بل المراد باب العلم بصفات الصانع الّتی من جملتها الإرادة، و لا شکّ أنّ إثبات الإرادة له تعالى لا یمكن إلّا بذلک.
و أمّا رابعاً: فلما ذكره صاحب «التلویح» من أنّ:
قوله: الموجود إمّا لا یحتاج فی وجوده إلى غیره … یؤول حاصله إلى أنّه لابدّ من موجدٍ لا یحتاج فی وجوده إلى الغیر و هو الواجب قطعاً، للتسلسل، إذ لو احتاج كلّ موجود إلى غیره لزم التسلسل إن ذهب لا إلى نهایة، أوالدور إن عاد إلى الأوّل.
و یرد علیه أنّ هذا الدلیل أیضاً متوقّف على امتناع الرجحان بلا مرجّح، فإنّه لو جاز لم یجب أن یكون ذلک الموجود الّذی لا یحتاج فی وجوده إلى الغیر واجباً، بل یجوز أن یكون ممكناً یترجّح بلامرجّحٍ، و ذلک فی غایة الظهور.
و أمّا خامساً: فلأن قوله: «و أیضاً إنّما أوردوا المثال سنداً للمنع، فعلیكم البرهان على الرجحان فی المثال المذكور» سهو ظاهراً، فإنّ الحكماء یدّعون بداهة دعواهم، و منع البدیهی لایضرّه، و إن أسند یكفی إبطال سنده، و هم قد فعلوا كذلک.
و أمّا سادساً: فلأنّ مراد القوم بأنّ المرجّح فی مثل الهارب موجود، غایته أنّه لیس بمعلومٍ أنّ الهارب أراد الطریق الّتی سلكها البتّة و علمها، و إن لم یعلم بإرادته و علمه المرجّحین، و لا شکّ أنّه لا یكفی فی عدم المرجّح عدم العمل بالمرجّح بهذا المعنى، فسقط قوله: «فبطل قولهم: إنّ غایته عدم العلم».
الدلیل الثانی: إنّ اللّه تعالى عالم فی الأزل بما یفعله العبد، و كلّ ما علم اللّه تعالى وقوعه لا یجوز عدمه فی الوقت الّذی علم وجوده، و إلّا لزم جهله – تعالى عن ذلک علوّاً كبیراً – فیجب وقوعه، فلا یكون باختیارٍ من العبد، و هو المطلوب.
و هو مردود بوجهین:
الأوّل: النقض بأفعال اللّه ـ تعالى شأنه ـ فإنّه تعالى قد علم ما سیفعله نفسه أیضاً فیلزم أن لا یكون تعالى مختاراً فی أفعال نفسه أیضاً، تعالى عن ذلک.
لایقال: إنّ إیجاب الفاعل فعل نفسه باختیاره و علمه لا یسمّى جبراً، بل هو محقّق للاختیار، و إنّما الجبر أن یوجب أحد فعل غیره، كما یوجب اللّه تعالى بعلمه فعل العبد.
لأنّا نقول: إنّ اللّه تعالى قد علم أنّ العبد یختار هذا الفعل، فالمعلوم هو اختیار الفعل و وقوع الفعل بالاختیار، لانفس الفعل حسب، فما یكون واجباً بواسطة علمه تعالى هو اختیار العبد ذلک الفعل، و لا یجب من وجوب الاختیار بعلمه تعالى وجوب الفعل به كما مرّ.
الثانی: إنّ العلم حكایة للمعلوم و تابع له، أی إنّ العبد لمّا كان بحیث یختار هذا الفعل فیما لا یزال عَلِمَ اللّه تعالى وقوع ذلک الفعل، و صدوره عن العبد فیما لم یزل، و إذا كان العلم تابعاً للمعلوم فلا وجه لأن یكون العلم موجباً للفعل، بل یكون بالعكس، و لا ینافی التبعیة تقدّم التابع على المبتوع، و كون التابع- أی العلم- أزلیاً، و المعلوم حادثاً، فإنّ التبعیة لیس فی الوجود، إنّما هو فی المهیة، كمطابقة الكلّی لأفراده.
الدلیل الثالث: إنّه لو كانت قدرة العبد مؤثّرة لزم أن یكون شریكاً للّه.
و أنت خبیر بأنّ الشرک إنّما یلزم أن لو كانت قدرة العبد كاملة فی التأثیر كقدرة اللّه ـ عزّوجلّ ـ بحیث لا یقدر غیره أن یجبره، و هو ظاهر الفساد، إذ لا شکّ فی أنّ اللّه تعالى قادر على جبر العبد على خلاف مراده، و ما مَثَلُ العبید إلى اللّه تعالى إلّا كَمَثَلِ عبدٍ قد أجازه مولاه، و جبره فی أفعاله و عقوده و إیقاعاته، فإنّه لا یمكن أن یقال: لا یبقى بین السید و العبد حینئذٍ فرق فی القدرة؛ فإنّ قدرة العبد متزلزلة، یجوز لمولاه الجبر، و نفی القدرة و الاختیار عنه.
الدلیل الرابع: إنّه لو كان الكفر و المعاصی بإرادة العبد و كان مراد اللّه تعالى هو الإیمان و الطاعات لزم أن یكون العبد غالباً على اللّه ـ تعالى عن ذلک ـ فإنّه یقع مراد العبد، و لا یقع مراده تعالى؛ و هذا هو الغلبة.
و أنت خبیر بأنّ دفعه أهون من نقض نسج العنكبوت، فإنّ الغلبه إنّما یلزم لو كان إرادة اللّه تعالى الإیمان ـ و الطاعات إرادة حتمیة، و لیس كذلک، بل إنّما یرید اللّه تعالى أن یؤمن و یطیع باختیاره، و لو أراد جبره علیهما لَجَبَره، و ما مثل ذلک إلّا كمثل سیدٍ أمر عبده بالذهاب فلم یذهب، فإنّه لا یعدّ ذلک غلبة للعبد على المولى، اللّهم إلّا عند هؤلاء الكوادن، معاشر أهل العناد، علیهم لعائن اللّه أبد الآباد.
و أمّا ما لحسه بعض دیدان فضلائهم من أنّ التفویض إنّما یكون إذا فوّض الاختیار أیضاً إلى اختیار العبد، و لیس كذلک و إلّا لزم التسلسل المذكور.
فهو أبرد من عقولهم، فإنّه لا معنى للتفویض إلّا إعطاء الاختیار، لا أن یجعل الاختیار أیضاً بالاختیار، و أیضاً التسلسل المذكور ممنوع البطلان، كما قد قرّر آنفاً.
الدلیل الخامس: إنّه قد ثبت أنّه ما مِن ممكنٍ إلّا و هو مقدورٌ للّه تعالى، و أفعال العباد من الممكنات، فتكون بقدرة اللّه تعالى لا بقدرّه العبد، و هو المطلوب.
أقول: ما هذا إلّا تَسَربَلٌ بِوَساوِس إبلیس، و تَقَلنُسٌ بقلانس التضلیل و التلبیس، فإنّ كون الممكنات مقدورةٌ للّه تعالى لا معنى له إلّا كونها جائزة الوقوع نظراً إلى قدرته تعالى، أی ما شاء اللّه منها أن یقع فهو یقع، لا أنّه تتعلّق القدرة بها جُمَعَ بالفعل، فإنّه ضروری البطلان، و إلّا لزم وجود ما لا یتناهى فی الأزل.
و حینئذٍ فنقول: أفعال العباد مقدورةٌ للّه تعالى بمعنى أنّه لو شاء تعالى أن یوقعها لَوَقَعَت بقدرته تعالى، و هذا لا ینافی أن یفوّضها إلى غیره، و بالجملةٌ، فهذا الدلیل فی غایة البرودة.
الدلیل السادس: إنّ العبد لو كان فاعلاً بقدرته لزم أن یكون عالماً بتفاصیل أفعاله، فإنّه لا یفعل فاعل مختار إلّا ما یعلمه، فإنّ الاختیار لا یكون إلّا للمعلوم، و ذلک بدیهی، و علم العبد بالتفاصیل باطل، فإنّا نكتب و لا نعلم تفاصیل الحروف و السطور، و المسافات بینها، و تفاصیل الأنامل و القلم و المداد.
أقول: إنّ العلم بالفعل إنّما یجب من الجهة الّتی اختیر الفعل منها، مثلاً إذا اختیر كتابة القرآن فإنّما یجب العلم بأنّ ما یكتبه هو القرآن، و أمّا التفاصیل فلا یجب العلم بها إلّا إذا تعلّق الاختیار بالفعل مقروناً بتلک التفاصیل، و هو فی غایة الظهور.
الدلیل السابع: إنّه لو قدر العبد على إبداء شیء لكان قادراً على إعادته، فإنّ الإمكان ذاتی للشیء لاینفکّ عنه، لوحظ مبتدأً أو معاداً، و التالی باطل ضرورةً.
جوابه أوّلاً: إنّ الإعادة محال فی نفسه من العبد أو من اللّه تعالى، و ما ذكره من أنّ الإمكان ذاتی لا ینافیه، فإنّ الإمكان لا معنى له إلّا جواز الوجود، و لا شکّ أنّ الممكن جائز الوجود أبداً نظراً إلى ذاته، و أمّا بعد أن وُجِدَ فَعُدِمَ فهو ممتنع الوجود بالغیر، و الامتناع بالغیر لا ینافی الإمكان الذاتی، و ذلک فی غایة الظهور.
و لو سلّم جواز الإعادة فلا نسلّم أنّ العبد قادر علیه، و هو لا یلزم من قدرته على الإبداء، لجواز أن یكون متعلّق قدرته هو الوجود الخاصّ أعنی ابتداءً دون مطلق الوجود.
الدلیل الثامن: إنّه لو قدر العبد على الأفعال قدر على الجواهر أیضاً، فإنّ مصحّح المقدوریة هو الإمكان المشترک بینهما.
و أنت خبیر بأنّه یجوز أن یكون مصحّح مقدوریة الأفعال هو تفویض اللّه تعالى، و هذا هو الظاهر لدى الأفهام.
الدلیل التاسع: إنّه لو كان الایمان و الطاعات بقدرة العبد لزم أن یكون العبد من بعض الوجوه أشرف مقدوراً من اللّه تعالى، فإنّه یفعل الحسنات، و اللّه تعالى یخلق المؤذیات، و الحسنات أشرف من المؤذیات، و اللازم باطل ضرورة.
أقول: … أمّا أوّلاً: فلأنّ فی خلق المؤذیات حِكَماً و مصالح لا ینتظم العالم إلّا بها، فكیف یفضّل علیه خلق العباد طاعاتهم الّتی لا ینتفع بها إلّا أنفسهم.
و أمّا ثانیاً: فلأنّه لا تلزم الأشرفیة إلّا إذا لم یكن للّه مخلوق هو أشرف من أفعالهم، و هو ضروری البطلان.
الدلیل العاشر: إنّه قد وقع الإجماع و الآثار على أنّه یجوز التضرّع إلى اللّه فی طلب الإیمان و التقوى، و التجنّب عن المعاصی، و یجب شكره تعالى على نعمة الإیمان و الطاعة، و لولا كانت هذه الأفعال من اللّه تعالى لما كان للتضرّع و الشكر مدخل فیها.
و أنت خبیر بأنّ التضرّع إنّما هو فی تهیئة الأسباب و دفع الموانع، و كذا الشكر على التوفیق بتهیئة الأسباب و دفع الموانع، و هو من فعل اللّه تعالى بلا شکّ.
خاتمة
اشتهر بین الخاصّة و العامّة أنّه (ص) قال: «القدریة مجوس هذه الأمّة»، ]الکافی 1: 157؛ التوحید 382؛ المستدرک للحاکم 1: 85.[ و أیضاً ورد فی صحاح الأحادیث: «لعنت القدریة على لسان سبعین نبیاً» ]بحارالأنوار 5: 47؛ کنزالعمال 1: 119.[ فاختلف الفریقان فی معنى القدریة، فحمله كلٌّ على صاحبه.
و یؤیدنا ما روی أنّه سئل: و مَن القدریة یا رسولاللّه؟ فقال: «قوم یزعمون أنّ اللّه سبحانه قدّر علیهم المعاصی، و عذّبهم علیها.»
و ما روی أنّ رجلاً قدم على النبی ـ صلی الله علیه و آله ـ فقال له رسولاللّه: «أخبرنی بأعجب شیء رأیت».
قال: رأیت قوماً ینكحون أمّهاتهم و بناتهم و أخواتهم، فإذا قیل لهم لِمَ تفعلون؟ قالوا : قضاء اللّه علینا و قدره.
فقال النبی: ـ صلی الله علیه و آله ـ «ستكون فی اُمّتی أقوام یقولون مثل مقالهم، اُولئک مجوس اُمّتی». ]بحارالأنوار 5: 47.[.
و ما روی عنه ـ صلی الله علیه و آله ـ أنّه قال: «یكون فی آخر الزمان قوم یعملون المعاصی و یقولون: إنّ اللّه تعالى قدّرها علیهم؛ الرادّ علیهم كالشاهر سیفه فی سبیل اللّه». ]الطرائف لابن طاووس: 344؛ بحارالأنوار 5: 47.[.
و نحن لتفصیل هذا المقام ننقل عبارة «شرح المقاصد» ههنا، ثمّ لننكر علیها، فلننقضها نقض نسج العنكبوت، بعون اللّه تعالى و تقدّس.
قال … فی … «شرح المقاصد» ما هذه عبارته:
قد ورد فی صحاح الأحادیث: «لعنت القدرّیة على لسان سبعین نبیاً»، و المراد بهم القائلون بنفی كون الخیر و الشرّ ]كلّه[ بتقدیر اللّه تعالى و مشیته، سمّوا بذلک لمبالغتهم فی نفیه، و كثرة مدافعتهم إیاه.
و قیل: لإثباتهم للعبد قدرة الإیجاد، و لیس بشیء، لأنّ المناسب ]حینئذٍ[ القُدَری بضمّ القاف:
و قالت المعتزلة: القدریة هم القائلون بأنّ الخیر و الشرّ كلّه من اللّه تعالى و بتقدیره و مشیته، لأنّ الشایع نسبة الشخص إلى ما یثبته و یقول به كالجبریة و الحنفیة و الشافعیة، لا إلى ما ینفیه.
و ردّ بأنّه صحّ عن النبی صلی اللّه علیه و آله قوله: «القدرّیة مجوس هذه الاُمّة»، و قوله: «إذا قامت القیامة نادى منادٍ فی أهل الجمع: أین خصماء اللّه؟ فتقوم القدریة». و لاخفاء فی أنّ المجوس هم الّذین ینسبون الخیر إلى اللّه، و الشرّ إلى الشیطان، و یسمّونهما ]هذا هو المشهور، و قال ناقد المحصّل: یعنون بهما ملکاً و شیطاناً و الله تعالی منزّه عن فعل الخیر والشرّ، واللّه أعلم. منه رحمه الله.[: یزدان، و أهرمن، و أنّ من لا یفوّض الاُمور كلّها إلى اللّه تعالى و یعترض لبعضها فینسبه إلى نفسه یكون هو المخاصم للّه تعالى، و أیضاً مَن یضیف القدر إلى نفسه و یدّعی كونه الفاعل و المقدّر أولى بإسم القدری ممّن یضیفه إلى ربّه. ]شرح المقاصد 4: 268 ـ 267.[.
أقول: انظر أیها الأخ إلى هذه العبارة و اضطرابها، أترى أنّ معبرّها قد أخذ من الحقّ رشفاً، أو رشف من الصدق غرفاً؟ كلّا ثمّ كلّا أتراه كیف تفصّى عن الحقّ أوّلاً بقوله:
«القدریة مجوس هذه الأمّة» تمسّكاً بالمحمول، أم ظنّ أنّ النبی صلی الله علیه و آله و سلم حدّ القدریة أو رسمها لكی یكون المحمول متمسّكاً به هنا؟ أم قد تورّط فی كنیفة وهم أنّ المحمول أیامًا كان ینبغی أن یكون ذاتیاً للموضوع، فیظنّ أنّه لا یجوز أن یقال: «الإنسان ضاحک» إلّا إذا كان الضاحک ذاتیاً للإنسان.
و بالجملة، فإّنه قد تمسّک فی إبانة باطله و إنفاق كاسده بلفظ المجوس، لما نسبوا بعض الأفعال إلى غیره تعالى ظنّ هذا البائر التائه أن العدلیة أیضاً یشبههم فی ذلک فی الجملة، فهم الأحقّاء بهذا الإسم، و لم یعلم أنّ التشبیه بهم لیس إلّا لغایة دنائتهم فی الدنیا والآخرة، و كونهم مغضوباً علیهم، و هذه العبارة فی مثل هذا المعنى شایع، من أنكرها فلقد أنكر على نفسه، لا سیما إذا كان المؤید من هذا الجانب كثیراً من الأحادیث الّتی ذكرناها، و من شیوع النسبة إلى ثبوت الشیء دون نفیه.
و قد صحّ أنّ أمیرالمؤمنین ـ صلوات اللّه علیه و سلامه ـ قال للحسن البصری: إنّه سامری هذه الاُمّة، أتراه لقد أضلّ الناس بالعجل، فكما أنّ مطلق الإضلال یكفی ههنا، مطلق الضلال یكفی هناک، و إذا عوضد ذلک بالمؤیدات تیقّن ذلک، أراک إذا كشفت عن نفسک غطاء العناد و الغباوة، و رفعت عن فؤادک حجب الضلال و الغوایة تصدق بذلک تصدیقاً بدیهیاً لا تشکّ فی ذلک بوجهٍ، ولكن مَن یضلل اللّه فما له من هادٍ.
تنزّلنا عن جمیع ذلک، لكن لا یتمّ مقصوده مع التمسّک بالمحمول أیضاً، فإنّ للمجوس اعتبارین:
أحدهما: نسبة بعض الأفعال ـ و هی الشرور ـ إلى غیره تعالى، و هو أهرمن، و هذا یناسب قول العدلیة من وجهٍ بعید. ]أشار بلفظ بعد إلی أنّ المناسبة بینهما لیس مناسبة تامّة جلیّة کما زعم هؤلاء المجبرّة، بل بعیدة، و ذلک للفرق الظاهر بینهما، فإنّ المجوس قالوا بخلق الشرور و القبائح من الأجسام و أفعال الغیر لا أفعال الخلق نفسه، فإنّهم قالوا: إنّ الحیّات و العقارب و معاصي العباد مخلوقة لإبلیس، و کم مسافة بینه و بین ما ذهبنا إلیه. منه رحمه الله.[.
و الثانی: إنّ اللّه یخلق شیئاً ثمّ یتبرّأ عنه، كما خلق أهرمن و تبّرأ عنه، و هذا یناسب كثیراً قول الأشاعرة، فإنّهم أیضاً قالوا بهذا بعینه، فإنّهم زعموا أنّه تعالى یخلق الشرور و القبایح ثمّ یتبرّأ عنها.
و قد تنبّه لذلک هذا الحائر البائر فی «التلویح» حیث قال:
قد ورد فی الحدیث: «إنّ القدریة مجوس هذه الأمّة»، و المجوس قائلون بإلهین : أحدهما: مبدأ الخیر، و الآخر: مبدأ الشرّ، و هذا یلائم القول بكون خالق الشرّ و القبیح غیر اللّه تعالى، وأیضاً قائلون بأنّ اللّه تعالى یخلق ثمّ یتبرّأ عنه، كخلق إبلیس؛ و هذا یلائم القول بكون اللّه خالقاً للشرور و القبائح مع أنّه لا یرضاها، فبهذین الاعتبارین ینسب القدر كلّ من الطائفتین إلى الاُخرى.
هذا لفظه، ثمّ قال فی «شرح المقاصد» :
فإن قیل: روى عن النبی صلی الله علیه و آله أنّه قال لرجلٍ قدم علیه من فارس: «أخبرنی بأعجب شیء رأیت»، فقال: رأیت أقواماً ینكحون اُمّهاتهم وبناتهم و أخواتهم، فإذا قیل لهم: لِمَ تفعلون ذلک؟ قالوا: قضاء اللّه علینا و قدره.
فقال: علیهالسلام «سیكون فی آخر اُمّتی أقوام یقولون مثل مقالتهم، اُولئک مجوس اُمّتی».
و روى الأصبغ بن نباتة أنّ شیخاً قام إلى علی بن أبیطالب علیهالسلام بعد انصرافه من صفّین، فقال: أخبرنا عن مسیرنا إلى الشام، أ كان بقضاء اللّه و قدره؟
فقال: «و الّذی فلق الحبّة و برأ النسمة ما وطئنا موطئاً، و لا هبطنا وادیاً، و لا علونا تلّة إلّا بقضاءٍ من اللّه و قدرٍ».
فقال الشیخ: عنداللّه احتسب عنائی، ما أرى لی من الأجر شیئاً.
فقال له: «مه أیها الشیخ! عظّم اللّه أجركم فی مسیركم و أنتم سائرون، و فی منصرفكم و أنتم منصرفون، و لم تكونوا فی شیء من حالاتكم مكرهین، و لا إلیها مضطرّین».
فقال الشیخ: كیف و القضاء و القدر ساقانا؟
فقال: «و یحک لعلّک ظننت قضاءً لازماً، و قدراً حتماً، لو كان كذلک لبطل الثواب و العقاب، و الوعد و الوعید، و الأمر و النهی، و لم تأت لائمةٍ من اللّه لمذنبٍ، و لا محمدةٍ لمحسنٍ، و لم یكن المحسن بالمدح من المسی، و لا المسی أولى بالذمّ من المحسن، تلک مقالة عبدة الأوثان، و جنود الشیطان، و شهود الزور، و أهل العمى عن الصواب، و هم قدریة هذه الأمّة و مجوسها، إنّ اللّه أمر تخییراً و نهى تحذیراً و كلّف یسیراً، لم یعص مغلوباً، و لم یطع مستكرهاً، و لم یرسل الرسل إلى خلقه عبثاً، و لم یخلق السموات و الأرض و ما بینهما باطلاً، ذلک ظنّ الّذین كفروا، فویل للذین كفروا من النار».
فقال الشیخ: و ما ]القضاء و القدر[ اللذان ما سِرنا إلّا بهما؟
قال: «هو الأمر من اللّه و الحكم، ثمّ تلا قوله تعالى: (وَ قَضى رَبُّکَ أن لا تَعْبُدُوا إلّا إیاه) ]الإسراء: 23.[.
و عن الحسن: بعث اللّه تعالى محمّداً صلی الله علیه و آله إلى العرب، و هم ]قدریة[ یحملون ذنوبهم على اللّه تعالى، و تصدیقه قوله تعالى: (وَإذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَیهِ آباءَنا وَاللّهُ أمَرَنا بِها(. ]الأعراف: 28.[.
قلنا: ما ذكر لا یدلّ إلّا على أنّ القول بأنّ فعل العبد إذا كان بقضاء اللّه و قدره و خلقه و إرادته لا یجوز للعبد الإقدام علیه، و یبطل اختیاره فیه، و استحقاقه للثواب و العقاب، و المدح و الذمّ علیه، قول المجوس، فلینظر أهذا قول المعتزلة أم المجبّرة؟ ولكن (مَنْ لَمْ یجْعَلِ اللّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) ]النور: 40.[ و مِن وقاحتهم أنّهم یروّجون باطلهم بنسبته إلى مثل أمیرالمؤمنین و أولاده ـ رضی الله عنه ـ و قد صحّ عنه أنّه خطب الناس على منبر الكوفة، فقال : «لیس منّا مَن لم یؤمن بالقدر خیره و شرّه». و أنّه حین أراد حرب الشام قال: شمّرتُ ثوبی و دعوت قنبراً قدّم لوائی لا تؤخّر حذراً لن یدفع الحذار ما قد قدّرا و أنّه قال لمن قال: إنّی أملک الخیر و الشرّ و الطاعة و المعصیة: «تملكها مع اللّه، أو تملكها بدون اللّه؟ فإن قلت: أملكها مع اللّه، فقد ادّعیت أنّک شریک اللّه، و إن قلت : أملكها بدون اللّه فقد ادّعیت أنّک أنت اللّه». فتاب الرجل على یده.
و أنّ جعفرٍ الصادق قال لقدری: اقرأ الفاتحة، فقرأ، فلمّا بلغ: (إیاکَ نَعْبُدُ وَ إیاکَ نَسْتَعینُ) قال له جعفر علیهالسلام: على ماذا تستعین باللّه و عندک أنّ الفعل منک، و جمیع ما یتعلّق بالأقدار و التمكین و الألطاف قد حصلت و تمّت؟ فانقطع القدری. و الحمدللّه ربّ العالمین. ]شرح المقاصد 4: 270 ـ 268.[.
هذا آخر ما نضّده من فرائد الأضالیل فی سموط الأكاذیب و الأباطیل.
و أقول: لعلّه مِن ملتقطات كنائف الضلالة و الطغیان، أو مِن منتسجات أضالیل الشیطان، اُنشدک باللّه أیها المستمع إلى ناقوسه! هل سمعت منه ما یشبه الحقّ، كلّا بل ما سمعت إلّا طنیناً كطنین البقّ، فـ (وَیلٌ لِلْمُطَفِّفِینَ الّذیِنَ إذا اكْتالُوا عَلَى النّاسِ یسْتَوْفُونَ وَ إذا كالُوهُمْ أوْ وَزنُوهُمْ یخْسِرُونَ) ]المطفّفین: 3ـ 1.[ أتراه كیف فرّ من الحقّ بحمل الأحادیث الصریحة فی مذهب العدلیة على ذلک المعنى الركیک الّذی لا ینفهم من لفظ الحدیث.
أمّا الأوّل: فلأنّه صریح فی أنّ الإشارة فی قوله: «یقولون مثل مقالتهم» إلى قولهم : «قضاء اللّه تعالى و قدره علینا»، و لا شکّ أنّ هذا بعینه قول الأشاعرة، فإنّهم یقولون: إنّ كلّ ما نفعله من خیرٍ و شرٍّ قضاء اللّه علینا و قدره، بلا فرقٍ بینهما بوجهٍ، و أمّا كون الإشارة إلى زعم أنّه إذا كان بقضاء اللّه و قدره لم یكن للعبد تخلّف عنه و لم یكن باختیاره، فهو بعید عن عبارة الحدیث جدّاً.
و أما الحدیث الثانی، فهو صریح فی أنّه لا معنى للقضاء و القدر إلّا الأمر و الحكم، كما فی قوله تعالى: (وَ قَضى رَبُّکَ أنْ لا تَعْبُدُوا إلّا إیاه) ]الإسراء: 23.[ فتكون الطاعات بقضائه تعالى دون المعاصی، و ما ذكره من المعنى لا یمكن أن یستخرج من عبارة الحدیث بوجهٍ.
و أمّا كلام الحسن، فهو أیضاً صریح فی مذهب… و أنّ الكفّار كانوا یقولون مثل مقالهم، إذ لا معنى لحمل الذنوب على اللّه تعالى إلّا ما یتقوّله هؤلاء من أنّها بقدرة اللّه تعالى دون قدرة العبد. و أمّا ما حكاه عن أمیرالمؤمنین علیهالسلام من قوله: «لیس منّا مَن لم یؤمن بالقدر خیره و شرّه» فعلى تقدیر صحّته یكون المراد بالقدر تقدیر اللّه وقوع الفعل خیره و شرّه عن العبد باختیاره.
و بالجملة، تقدیره تعالى: اختیار العبد ذلک الفعل الّذی هو طاعة أو معصیة، لا تقدیر نفس الفعل، لیلزم ما ذهب إلیه هؤلاء الكفرة الفجرة.
و أمّا ما رواه عنه علیهالسلام من قوله: «لن یدفع الحذار ما قد قدّرا» إن صحّ فلا یفید التقدیر فی أفعال العباد، إنّما هو فی النصر و الهزیمة و الأجل و نحوها، فویل للّذین عموا و صمّوا، ثمّ عموا و صمّوا.
و أمّا قول الرجل: «إنی أملک الخیر و الشرّ» فهو صریح فی أنّ زعمه أنّه مالكهما و هو بمعنى التفویض بالكلّیة، و لا شک أنّه خطأ باطل لم تقل به العدلیة.
و أمّا ما رواه عن جعفر الصادق علیهالسلام فهو ینادی بأعلى صوته بكذب من روى، و لو كان صادقاً لنادى بغایة وهن احتجاج الصادق علیهالسلام تعالى عن ذلک علوّاً كبیراً، و ذلک لأنّ للقدری أن یقول: إنّا نستعین اللّه فی تیسیر الأسباب و تسهیلها حتّى تكون العبادة على أیسر وجهٍ و أهونه، أو یقول: إنّا لانستعینه فی العبادة، ولكن فی سائر الاُمور الّتی لیست باختیارنا، و إذا قال القدری ذلک أفحم الصادق علیهالسلام حاشاه عن ذلک، فویل للّذین یفترون على اللّه و على أولیائه الكذب لإصلاح فاسدهم، و إنفاق كاسدهم، و سیعلم الّذین كفروا أی منقلب ینقلبون. و اللّه أعلم بالصواب، و منه المبدأ و إلیه المرجع و الإیاب، إنّه هو الرحیم التّواب، و هو المؤجر على الإصابه بالثواب، و هو الُمخذِل للنواصب بأنواع العذاب.
هذا نهایة ما أردنا إیراده لتمییز الحقّ عن البطلان، و إنقاذ المنصف من ورطات الخذلان، و إصعاده إلى أعلى رُبى الرضوان، و هزم جنود إبلیس و خفض رایة الشیطان (فَانْقَمَنا مِنَ الَّذیüنَ أجْرَمُوا وَ كانَ حَقّاً عَلَینا نَصْرُ الْمُؤمِنینَ) ]الروم: 47.[ و الحمد للّه أوّلاً و آخراً، و باطناً و ظاهراً.
و قد اتّفق الفراغ من تألیف هذه النسخة الموسومة بـ «إجالة الفِكَر فی فضاء القضاء و القدر» یوم الجمعة التاسع و العشرین من جمادى الاُخرى من أشهر السنة الثامنة و السبعین بعد الألف من الهجرة المصطفویة، كتبه بیمناه الداثرة البائرة مؤلِّفه المؤلَّف بینه و بین أعدائه، المبعَّد عن إخوانه و أصدقائه، المستقطف من القطوف الدوانی، محمّد بن الحسن بهاءالدین الإصفهانی، حُسِد لدى القاصی و الدانی.
هذه رسالة «إجالة الفكر فی فضاء القضاء و القدر» من جملة تصانیف الشیخ الإمام، العالم العلّامة، مجتهد الزمان، و وحید الدوران، الدرّ الیتیم الفاخر من بحار الفضائل و الفواضل و المفاخر، البدر الزاهر، و البحر الزاخر، و السحاب الماطر، حجّة اللّه (الصغرى) على الأكابر و الأصاغر، نادرة النوادر، المستغنى الأوصاف و الألقاب، اُستادنا و مولانا و معلّمنا أبی الفضل بهاء الملّة و الحقّ و الدین و الدنیا محمّد، أدام اللّه ظلاله الشریفة على رؤوس طالبی الحقّ المبین، و لاحظه بعین العنایة و الرعایة، و أنجج آماله بحرمة محمّد و أهل بیته الطاهرین، آمین ربّ العالمین.
و قد نقلتها كسائر ما وفّقت لتحریره من تصانیفه الشریفة المنیفة من خطّ ناظمها فی سمط التهذیب و الإجادة، بتوفیق اللّه الملک المنّان، سلّمه اللّه تعالى و أبقاه، و حرسه من المكاره كلّها و وقاه، إنّه على ما یشاء قدیر، و بالإجابة جدیر، فی شهور سنة 1111. نمّقه العبد محمّد علی العاملی النجفی.